أحتفل بعيد ميلادي الثالث والعشرين. أفكّر بالعام الماضي، وأحياناً بالأعوام الماضية كلّها. أحسب الربح وأحسب الخسارة، وأقارنهما. ثمّ أتذكّر الصور التي رسمتها عن نفسي وأنا في هذا العمر. بعضها يكون قد تحقق، والبعض الآخر قيد التحقيق، وصور أخرى لم أعد أرغب فيها. ربما يكون التفكير هذا كلّه في غير مكانه، إذ أعود وأتذكر أنني ما زلت شابة، وأنّ الوقت، على الرغم من مروره كومضة، إنما ما زال في صالحي.
قرأت قبل نحو عام، وأنا أحضّر لدراسة قصيرة عن إحدى الروايات، سؤالاً طرح على كاتب شهير حول ما إذا كان يحبّ أن يعود به الزمن إلى عمر الشباب. توقعت أن يتحسّر الكاتب على شبابه، غير أنه أجاب مستهزئاً: "أن أعود شاباً؟ هل أنا مجنون؟".
أفكّر بأننا نولد في بيت عمّره وجهّزه أناس قبلنا. نكبر ونلعب ونترك في أروقته وغرفه وعلى جدرانه، أثراً يلتصق به. أمّا الأثر الأكبر فيلتصق بنا نحن، ونحمله معنا إلى البيت الذي سوف نعمّره نحن عمّا قريب. تنتهي الطفولة هنا، والمحظوظ منّا يتذكّر أنّها كانت سعيدة. من بعدها، تبدأ رحلة بناء المنزل الرمزيّ العائد إلينا.
في عمر الشباب، نبني ونعمّر ونتسلّق السلالم لبناء طابق آخر. بعد الانتهاء من البناء، يأتي موعد اختيار الشريك في السكن الذي يبني أيضاً، من جهته، بيتاً له. يكون البيتان قريبَين أحياناً. وفي أحيان أخرى، يكون كلّ بيت منهما في زاوية مختلفة من هذا العالم.
أظنّ أن الكاتب الشهير يفضّل أن يبقى ساكناً في بيته على أن يعود مجدداً ليبنيه أو يبني غيره. ربّما لم يستمتع الكاتب هذا في بناء البيت. بعيداً عن الكاتب، يشكو شباب من أنّهم غير سعداء. ثم يأتي موعد تلاوة اللائحة نفسها: الاهتمام بالدراسة والبحث عن عمل بعدها أو خلالها، ثم النجاح، وبناء الصداقات والحفاظ عليها، والسهر والأحاديث مع فناجين قهوة أو كؤوس نبيذ بهدف صنع الذكريات، حتى لا نتنقل إلى البيت من دون صور نضعها في إطار ونعرضها على الرفوف. وتطول اللائحة، وصولاً إلى العلاقات العاطفية والتعب الذي يرافقها، ومحاولات تقريب المسافات بين الشريكَين، والفشل في الحب ثم المحاولة مرة أخرى.
تنتهي اللائحة بتنهيدة ثم ضحكة تبدأ من المبادر إلى تلاوة اللائحة، ولا تنتهي عند السامعين. أفكّر بالتعب هذا كلّه. تمرّ في رأسي فكرة هي الأخطر على الإطلاق. البيت الذي نبنيه اليوم ونسكنه غداً، لا نملكه فعلاً. تربطنا به عقود إيجار يمكن لمالكه الأساسي الذي جاء بنا في الأصل أن يلغيها بلحظة واحدة. فنختفي ولا نعرف أين راح التعب هذا كلّه. نعرف أنّ المسار طويل، حيث بنينا وسكنّا. لا يهمّ أبداً إذا ما فُقد منه العنصر الأساسيّ أو المكوّن الرئيسيّ. المتعة، ثم المتعة.