قبل أن تصعد إلى المسرح، كانت قد قطفت ما تحتاج إليه من الحقل القريب من منزلها، وسوّت الأرض قليلاً. أخالها تحكي عمّا فعلته في الحقل، وعن الأرزّ الذي أعدّته قبل المجيء إلى هنا. لا تأتي على ذكر الطائرة. قفزة واحدة نقلتها من الحقل إلى المسرح. الشمس والتراب لا يخرّبان الحناء على يديها. كأنّها ولدت برسوم وكحل أسود كتتمّة لـ "صعيديّتها". لا تقصد أن تكون أجمل. هذه صورتها كما يجب أن تكون على المسرح وخارجه. هذه المرأة التي تغطي شعرها بمنديل أسود، تغنّي وترقص مع فرقة "مزاهر" المصرية.
ضجيج. على المسرح ضجيج يُسكت جميع الأصوات الأخرى، حتى تلك التي تصرخ في داخلنا. أرى أيادي تدقّ المزاهر. ما يفعلونه ليس عزفاً، وإن كانت هناك موسيقى. ضجيج قلوبهم يصنع ضجيجاً أكبر. لا أعرف إن كانوا يصنعون موسيقى أم نفساً صعيدياً أم تحرّراً أم تعبيراً عن النفس.
ترقص وتدعو الفتيات إلى الرقص. فقط تفتح يديها إليهنّ وهنّ يستجبن لها. لا تسعى إلى إنجاح الحفل فقط. تدعوهنّ إلى الخروج من حيث هنّ.. تقاليد أم بيت أم حياء وغيرها من التفاصيل التي ترافقهنّ منذ الصغر، وقد تخرّب حياتهنّ حتى وقت طويل وربّما إلى الأبد. يستجبن لها كأمّ جديدة ويفتحن أيديهنّ، بل ينسينها في سماء المسرح.
بين الجمهور من يسأل إن كان أعضاء الفرقة سعداء. يغنّون ويرقصون ويدقّون المزاهر وتتفاعل أجسادهم طوال الوقت. محجبّات ويتمايلن. ربما لسن محجبات، إلا أنّ أجسادهن طيّعة لا تسائل أو تحاسب نفسها. إغراء مثلاً؟ كان ذلك أو لم يكن، فهو مجرّد تفصيل. يبدون أكثر تصالحاً مع أجسادهم، رجالاً كانوا أم نساء.
في كلّ حفل، وربّما في حياتهم اليومية، هم قادرون على الانعتاق من واقعهم والعودة إلى لحظات أولى، حين كانوا أطفالاً يكتشفون الأصوات والموسيقى. أياديهم نفسها كانت صغيرة تدقّ على الطاولات والأبواب إلى أن يحدث ضجيج يفرحهم. وفي صغرهم، لا يجيدون الرقص بحرفيّة. فقط يهزّون أقدامهم وتهتزّ معها أجسادهم.
وإذا غضبوا، يكفي أن يدقّوا المزاهر ويدوروا في أنحاء الغرفة لينتهي كلّ شيء. اليوم، أكثر ما تفعله منظّمات المجتمع المدني هو مساعدة الأطفال اللاجئين على التعبير. هؤلاء الصغار إمّا يرسمون أفكارهم أو يغنوّنها أو يرقصونها أو يبكونها. ونحن، حتى لو زاحت الغيوم عن السماء، نادراً ما نمدّ أيدينا إليها. نخشى أن تفلت أنفسنا منا. وإن دقّت المزاهر، نقف أمام المشهد دهشين. "صعايدة" أكثر راحة مع أنفسهم. ونحن أبناء المدن نصفّق قليلاً قبل أن نُرجع أيدينا إلى ذلك المكان المحدّد لهما. "دقّوا المزاهر" إذاً.