سمح امتداد الأزمة السورية في فتح المجال أمام دراسات أعمق لأثر هذه الأزمة على الأجيال. وبيّنت أعوام الأزمة للباحثين أهمية العودة إلى أخلاقيات اختصاص العلاج النفسي لمتابعة أثر الأزمة على السوريين والمجتمعات المضيفة وحتى على المعالجين النفسيين.
محمد طفل سوري لجأ مع عائلته من بلدة النزارية في ريف القصير السوري إلى بلدة عرسال على حدود لبنان الشرقية مع سورية. يظهر القلق واضحاً على وجهه وعلى حركات جسده المضطربة، أثناء جلوسه في الغرفة الصغيرة في حيّ ورا الشفق في البلدة. وذلك حصيلة طبيعية لثلاث سنوات من اللجوء القسري لطفل لم يتجاوز التاسعة من عمره اليوم. يُذكر أن محمد نسي الكثير لا سيما ذكرياته في بلدته، لتحلّ محلها ذكريات الانتقال الصعب من سورية إلى لبنان عبر الجرود القاسية التي تفصل بين منطقة القلمون السورية وبين عرسال.
على ظهر حصان، عبر محمد. ويروي: "حملتني أمي بين يديها، فلم أرَ كثيراً من الطريق. لكنني أذكر أصوات القصف البعيد، وضرب حوافر الحصان على صخور الجبل". وطوى اللجوء صفحة من حياة محمد وفتح أخرى: "عرسال ليست جميلة كالنزارية، كل البيوت تشبه بعضها هنا ولا ألوان فيها. البساتين بعيدة جداً، فلا أجد مكاناً للعب. وأصدقائي في المدرسة خائفون مثلي، فلا نتسلى فيها". يخشى محمد من رد فعل والدته الجالسة بالقرب منه في الغرفة الخالية من الأثاث تقريباً، "لأن صراحة الأطفال تُفهم خطأً من قبل أهالي عرسال"، تقول الوالدة. لذلك تكرر يومياً كل المواضيع "الممنوع التطرق إليها" في المدرسة، من مواقف والد محمد السياسية إلى طبيعة عمله وصولاً إلى وضعهم الاجتماعي.
آثار فردية وجماعية
تشير أستاذة علم النفس الاجتماعي في الجامعة اللبنانية الدكتورة رجاء مكي إلى "تنوّع الآثار النفسية العابرة للأجيال بين الخاصة والعامة، لتطاول مختلف شرائح الشعب السوري النازح واللاجئ والشعوب القريبة جغرافياً". تعيد مكي "مسببات هذه الآثار إلى مجموعة الصدمات التي يتعرّض لها الطفل في بلد اللجوء والبلد المضيف"، للحديث عن "جروح الذاكرة الجماعية السورية". وعلى المستوى الفردي، تدرس مكي "العلاقة بين الوافد اللاجئ والمواطن المستقبل للحديث عن البعد الفردي لهذه الأزمة على البشر من مختلف الأعمار".
عند هذه النقطة، الحديث عن محمد كطفل يعاني من مجموعة أعراض كـ"التبوّل اللاإرادي والخوف المطلق والعدوانية وقلق الهوية وغيرها"، ينتقل من حالة فردية مستقلة إلى جزء من منظومة اجتماعية قد تولّد العنف. وتوضح مكي في دراسة قدّمتها خلال مؤتمر "التعليم والأزمة السورية" في سبتمبر/أيلول العام الماضي، أهمية "الاحتواء النفسي والتربية من خلال التوجيه والحماية والتشجيع على ممارسة الرياضة والتعبير الكتابي لعلاج الأزمات النفسية القاسية التي قد تؤدي إلى التطرف والإرهاب". وهو جهد مُشترك يجب أن تضطلع بها المجتمعات المضيفة أيضاً، من خلال "نشر قيم التسامح والتشجيع والتعايش وتسهيل عملية التأقلم ورعاية الأطفال، مع التشديد على أهمية نشر قيم الاعتدال الديني".
علاج المعالِجين
وتطرح الأدوار التي تؤديها مؤسسات إغاثة محلية ودولية تقدّم الدعم النفسي والمعنوي للاجئين، أسئلة حول أهلية هذه الجهات في ما يتعلق بتقديم العلاج النفسي تحت مسميات مختلفة. يقوم عمل هذه الجهات على زيارات ميدانية وجلسات "علاج" تستهدف مختلف الفئات العمرية والاجتماعية للاجئين، لكن مكي تشير إلى أن هذه الزيارات "لا تعكس أخلاقيات المهنة، بحكم الضرورة أحياناً، خصوصاً أن هذه الجمعيات تُقدّم هذه الزيارات بشكل مجاني للاجئين في إطار سياسة احتواء للأزمة".
وتتحدث مكي عن "تحوّل عدم ترحيب المجتمعات المضيفة بالزائرين (اللاجئين) إلى موروث فكري تتناقله الأجيال من فرد إلى آخر ومن عائلة إلى أخرى. وهو ما ينعكس على هوية الفرد والمجتمع التي تضطرب نتيجة تعدد الإثنيات المشاركة في صياغتها". وقد أثيرت هذه النقطة خلال ورشة علاجية بحثية "في تعابر الأجيال" نظمها مركز "سي بي آر إم" الذي تتولى مكي إدارته. وقد هدفت الورشة إلى "الجمع بين البعد البحثي للموضوع وبعده العلاجي، من خلال طرح عنوان للنقاش بين مؤسسات واختصاصيين عاملين في مجال العلاج النفسي". وتلفت إلى أنه "لقاء أول تتبعه مجموعة نقاشات ومؤتمرات مفصّلة سوف تقدّم مجموعة توصيات تفيد على الصعيد الوطني وأزمة اللاجئين إلى جانب تعزيز الجوانب العلمية للعلاج النفسي في المراكز المختصة".
وتستكمل مكي في جهودها البحثية سلسلة دراسات أطلقتها مجموعة عمل فرنسية مختصة في العلاج النفسي، اكتشف أحد أعضائها معاناته من قلق مزمن نتيجة ذكريات معيّنة من الطفولة. وقد قادته هذه المعاناة الشخصية إلى متابعة أثر الأحداث التي يمر بها الإنسان في الطفولة على "الجروح الفردية والجماعية للأجيال". وهو ما عملت عليه مكي في مجال اللجوء السوري بشكل مركز، قادها إلى تناول "التعلق العاطفي للأطفال، وأثر الأعمال الإرهابية عليهم، وأثر سياسات اللجوء عليهم".