بدأ المسلمون في لبنان صوم شهر رمضان، وسط هموم تشغلهم، ترتبط بنوعية وأسعار المواد الغذائية التي سيتسهلكونها خلال الشهر الكريم. هي هموم يتشاركها اللبنانيون عموماً مع موجات ارتفاع أسعار تلك المواد في المناسبات الدينية، وهاجس السلامة الغذائية الذي بدأ مع كشف وزير الصحة وائل أبو فاعور، عن وجود آثار لبراز بشري في بعض عينات الأطعمة التي فحصتها الوزارة في المحال التجارية.
لا تخلو أحاديث السيدات خلال رمضان من وصفات التعقيم للخضار والدجاج قبل طبخه واستهلاكه. تتنوع هذه الوصفات بين استخدام الملح والخلّ الأبيض الذي تفضله بعض السيدات على مواد التطهير الكيميائية. يطاول همّ التعقيم مختلف المواد الغذائية، لكنه يقف عاجزاً أمام التلوّث الذي يصيب القمح، مثلاً، وهو المكون الرئيسي لتحضير رغيف الخبز اللبناني الذي يُستهلك في كلّ الوجبات. كما يشكل البحث عن أنظمة التعقيم الأفضل للمياه هاجساً حقيقياً.
يصف أستاذ الهندسة الجرثومية والمهندس الزراعي في الجامعة اليسوعية أندريه خوري السلة الغذائية اللبنانية بـ"الكارثة"، بسبب ارتفاع سعراتها الحرارية وتلوّث معظم عناصرها. يؤكد خوري لـ"العربي الجديد" أنّ اللبناني "يعاني من تلوّث تقاطعي يصيبه جراء استنشاق الهواء الملوّث، وشرب المياه الملوّثة، وتناول الأطعمة الملوّثة أيضاً".
هذا الأمر تؤكده أبحاث أجراها خوري في الجامعة اليسوعية، وقد أظهرت "ارتفاع الإصابة بأنواع السرطان في لبنان، كسرطان الكبد والثدي والجهاز الهضمي والمثانة، من 100 شخص بين كل 100 ألف شخص عام 1967 إلى 300 شخص بين كل 100 ألف شخص عام 2013". وبحسب الأبحاث فإنّ "معظم أنواع السرطانات التي يصاب بها اللبنانيون ترتبط مباشرة بأنواع التلوّث المنتشرة". يؤكد خوري مثلاً أنّ "سرطان المثانة مرتبط مباشرة بارتفاع نسبة مادة الأوكراتوكسين في جسم الإنسان، وهي المادة نفسها التي كشفت التحاليل وجودها في القمح بنسب مرتفعة، وفي الهواء أيضاً".
خلطة تلوّث
تُشكل الحبوب ما بين 50 و60 في المائة من السلة الغذائية اللبنانية، بحسب خوري، تليها الخضار واللحوم والدواجن. تطاول الملوّثات معظم هذه المكونات "بدءاً من مياه الري الملوّثة، وحتى الآسنة، التي تروي مزروعاتنا، وصولاً إلى نوعية العلف الذي تتناوله المواشي والدواجن في المزارع وهو مزيج من نشارة الخشب وعظم الذبائح المطحون مع القليل من الحبوب". يحذر خوري من انتشار المزروعات المعدلة جينياً التي تزرع في لبنان، أو تستورد من الخارج. وعلى عكس الاعتقاد السائد أنّ الخضار أقل تلوّثاً من اللحوم أو الدواجن، يشرح خوري أنواع التلوّث المتعددة التي تصيب الخضار بدءاً من "ريها بمياه المجاري، ثم رشها بمبيدات كيميائية، وتخزينها ونقلها بطرق غير صحية. وإن نجح نقع الخضار بالملح والخل في إزالة بعض رواسب المبيدات عن الأوراق فإنّ أثر المياه الملوّثة التي روتها سيبقى، حتى بعد الطهو".
على هذا الأساس، يتحول صحن سلطة الفتوش المعروف في رمضان إلى خلطة من الخضار الملوّثة. وعدا عن الخضار الملوّثة، يدعو خوري المواطنين إلى المقارنة بين أسعار زيت الزيتون الموجود في المحال التجارية وبين زيت الزيتون البلدي "ليأخذوا فكرة عن نوعية المواد الكيميائية التي يضيفونها إلى خضار الفتوش عبر زيت الزيتون مثلاً". وعادة ما يتجاوز فارق السعر بين زيت الزيتون البلدي وزيت الزيتون التجاري عشرات الأضعاف، وهو ما يلمسه المواطنون من خلال الفارق في طعم ولون ورائحة الزيت.
هيئة غائبة
على صعيد الدواجن واللحوم، يذكر خوري أنّ طرق نقل هذه اللحوم من المصانع والمسالخ إلى الجزارات والمحال التجارية بدائية: "نادراً ما يجري الالتزام بدرجات الحرارة المئوية الدنيا التي يجب نقل اللحوم فيها. تتجاوز درجات الحرارة في العادة في مؤخرة السيارة أو الشاحنة غير المبردة 26 درجة مئوية، بينما تنص الشروط الصحية على نقل اللحوم في درجة حرارة أقل من 4 درجات مئوية".
يساهم هذا الفرق في زيادة نسبة الجراثيم داخل هذه اللحوم، مع العلم أنّ "العلف الحيواني الذي تتناوله الذبائح يؤهلها للمشاركة في بطولات كمال أجسام وليس الاستهلاك البشري فقط، بسبب كمية البروتينات غير الطبيعية التي تعطى لها بهدف تسمينها. كما يحقن دجاج المزارع بالكورتيزون لتسمينه سريعاً أيضاً". أمام هذا الواقع المعقد من التلوّث المركب يصف خوري ردة الفعل الرسمية إمّا أنّها "مقصّرة أو متواطئة".
وفي هذا الإطار، يشدد خوري على ضرورة إقرار المراسيم اللازمة لتطبيق قانون سلامة الغذاء الذي أقره مجلس النواب (البرلمان) نهاية عام 2015 بعد عشر سنوات من التأخير. وينص القانون على إنشاء "الهيئة اللبنانية لسلامة الغذاء"، المرتبطة برئيس مجلس الوزراء، ومنحها صلاحيات هي من ضمن مهام الوزارات المعنية (صحة، اقتصاد، زراعة). وينطلق القانون من مبدأ "مراقبة الغذاء من المزرعة إلى المائدة"، ويشمل مختلف أنواع المأكولات والمشروبات.