حلّ شهر رمضان في مصر هذا العام، وعشرات آلاف المعتقلين السياسيين "محشورون" في أقبية ضيّقة، حيث الحرارة المرتفعة بشدّة والتهوية منعدمة وسط كميات ضخمة من الحشرات الزاحفة والطائرة. من الجهة الأخرى للقضبان، تقف أسر هؤلاء المكلومة في طوابير، وتعاني أمام بوابات الاحتجاز التي يسهر عليها السجّانون. تقف هناك، لعلّها تحظى بزيارة سريعة أو نظرة خاطفة من خلف سلك شائك، آملة أن يحصل أبناؤها المحرومون على قليل من الطعام الصالح للاستهلاك البشري، في أيام يكاد الناس يموتون خلالها من التخمة، بحجّة الصيام.
لكنّ تلك الأسر محظوظة أيضاً، إذ هي على علم بأماكن احتجاز أبنائها، في حين يقبل رمضان وأبناء أسر أخرى في عداد المفقودين، أو في عداد التائهين بعدما رُحّلوا من مراكز اعتقالهم المعروفة إلى أماكن أخرى من دون أيّ معلومة تمكّن ذويهم من اقتفاء أثرهم.
أشهر المعتقلات
لمصر تاريخ عريق في التنكيل بالسجناء، وتشهد الوثائق الفرعونية على معاملة غير إنسانيّة عانى منها السجين المصري القديم وأسرته، لدرجة أنّ العقوبة كانت تُورّث لأسرة السجين إذا مات، فضلاً عن أعمال السخرة الشاقة. أمّا في العصر الحديث، فيمثّل "سجن القلعة" الذي بناه الخديوي إسماعيل في عام 1874، رمزاً وامتداداً للسجون الفرعونية التي اشتهرت بنزلائها من سجناء الرأي وبتعذيبها لهم. مرّ عليه الآلاف منذ إنشائه، إلى حين إغلاقه في عام 1981. آلاف أيضاً شهدوا رمضان في عنابره.
تجدر الإشارة إلى أنّ هذا السجن كان قد اشتهر بزنازينه الضيقة جداً وغرف التعذيب المختلفة، مثل غرفة "الشواية" وغرفة "التعليق" وغرفة "الحلقات" التي صممها أحد المهندسين الفرنسيين في ستينيات القرن الماضي، على غرار غرفة "نزع الاعترافات" المشهورة في سجن "الباستيل" في فرنسا.
في رمضان هذا العام، يتوزّع المعارضون السياسيون على مجموعة من السجون والمعتقلات. ثمّة 25 منطقة سجنيّة تضمّ 42 سجناً، بالإضافة إلى بعض معسكرات ومئات أقسام الشرطة. كلّها تقريباً غير مطابقة للمواصفات الحقوقية الإنسانية.
بالنسبة إلى خبراء وسجناء سابقين، فإنّ أسوأ السجون التي يمكن أن يقضي فيها المعتقل شهر رمضان هي سجون أبو زعبل (ليمان أبو زعبل، وشديد الحراسة، وسجن المرج). الزنازين فيها ضيقة جداً من دون تهوية، بينما لا يتوفّر فيها مكان لصلاة الجماعة (لا تراويح ولا غيرها). كذلك، فإنّها تحتوي على أعداد ضخمة من الحشرات الزاحفة والطائرة كفيلة بإتلاف أي طعام. يُذكر أنّها تُعدّ عنابر تأديب وتعذيب بطبيعتها، من دون أيّ جهود إضافية.
السجّان الخاشع
أمّا مقرّات أمن الدولة، فلها حكاياتها الرمضانية الخاصة. يحكي أحدهم عن تجربة اعتقاله في رمضان قبل سنوات في مقرّ أمن الدولة الشهير بـ "لاظوغلي"، وكيف أنّ رمضان دخل عليه وهو محتجز مع مجموعة لم يعرف عددها، إذ عيونهم كانت معصوبة فيما كانت أيديهم وأرجلهم مكبّلة طوال الوقت وبإحكام بالقيود الإلكترونية "الكلبشات". يضيف: "لأنّه شهر كريم، كان الحرّاس يلقون الطعام إلى جوار المعتقلين، لكن من دون أطباق. كانت وجبة واحدة (لا هي سحور ولا إفطار)، ربما كانت أرزّاً وربما كان غيره. الطعوم لا معنى لها والذائقة منعدمة. وكان المعتقل المنهك جوعاً وضرباً والمقيّد، يميل برأسه إلى الأرض ليلتقط بفمه ما يقدر عليه".
أما عن الوضوء والصلاة، فيقول إنّ السجانين كانوا يمتنعون عادة عن توفير ذلك إذا طلبه أحد المعتقلين. وتكال له أقذع الألفاظ والشتائم، أقلّها أنّه إرهابي لا دين له وأنّ صلاته غير مقبولة. ويشير إلى أنّ السجّانين أنفسهم كانوا يقيمون الليل، ويصلّون التراويح بجوار الزنازين. تعجّب المعتقلون من حفظ أحدهم القرآن وحسن تلاوته في الصلاة. في تلك الليلة، كانت أجسادهم تتهاوى من فرط التعب والإرهاق، فأصدرت الكلبشات أصواتاً أزعجت السجّان القارئ. ما لبث أن انتهى من ركعاته، حتى توجّه إلى المعتقلين بوابل من السباب والشتائم القبيحة، وقد اتهمهم بأنّهم كادوا يفقدونه خشوعه.
وفي غرف التحقيق، كان صوت القرآن الذي يستمع إليه ضابط أمن الدولة، يصاحب الصفع والركل والصعق بالكهرباء مع تشكيلة متنوعة من الألفاظ البذيئة. وهو ما أصاب بعض المعتقلين المقهورين بالذهول، إذ كيف لهؤلاء الضباط والحرّاس أن يجمعوا بين الصلاة وسماع القرآن من جهة، وبين هذا "المستوى الرفيع من الإجرام والسادية".
سياسة رمضانيّة
في السجون الكبرى، تُستثمر الإجراءات الرمضانية الثابتة للدعاية السياسية والتدليل على "طيبة قلب النظام وتديّنه". وتتصدّر الصحف سنوياً عناوين مكرّرة من قبيل "وزير الداخلية يوجّه بمنح السجناء زيارتين استثنائيتين بمناسبة رمضان" و"قطائف وبسبوسة وعصائر للسجناء في الشهر الكريم" و"ندوات دينية ومسابقات بين السجناء طوال الشهر الفضيل" وغيرها.
يبقى تطبيق ذلك منوطاً بالحالة المزاجية لإدارات السجون المختلفة وخططها العقابية وتوجيهات جهاز الأمن الوطني. وفي حين يُسجَّل تساهل مع السجناء الجنائيين، تتّخذ إدارة السجن من رمضان فرصة لفرض سياستها على المعتقلين السياسيين، ومعظمهم من الإسلاميين الذين يأملون إعادة ترتيب بعض الأوضاع بشكل مؤقت، مثل تحسين نوعية الطعام وتسهيل الزيارات والإفطار الجماعي والسماح لهم بصلاة التراويح. يُذكر أنّ عادة ما تلتهب الأجواء، فيتعكّر مزاج الجميع، إثر عمليات التفتيش المفاجئة لوزارة الداخلية التي تقلب السجن رأساً على عقب.
عذابات الأهالي
يضطر المعتقلون بمعظمهم إلى مطالبة ذويهم بعدم زيارتهم في شهر رمضان، نظراً للتعذيب والإهانات التي يتعرّض لها الأهالي، خصوصاً النساء والأطفال وكبار السنّ. كذلك، فإنّ حالات إغماء كثيرة تُسجَّل أمام البوابات. تصل هذه الأخبار إلى المعتقلين، فتزيد من آلامهم.
ويتحدّث البعض عن تفنّن إدارات السجون في إيذاء السجناء وأهاليهم في شهر رمضان، عن طريق "تفتيش الزيارة تفتيشاً شديداً" بحجّة البحث عن ممنوعات. كذلك، قد تحتجز الطعام الخاص لفترة طويلة بحجّة الكشف عليه من قبل طبيب السجن خوفاً من نقل الأمراض إلى السجناء، وفي النهاية يفسد الطعام بين التفتيش والفحص، فيتسلمه المسجون فاسداً، من دون أن يملك حقّ الاعتراض. الاعتراض عواقبه وخيمة على الجميع.
أما مئات الموقوفين داخل أقسام الشرطة، فإنّ ظروفهم أفضل حالاً. معظم تلك الأقسام تسمح للأهالي بتمرير وجبات يومية إلى غرف الاحتجاز. ويبدو رمضان هذا العام موسماً كريماً جداً على الحرّاس والسجّانين والجنود الذين يتحصلون يومياً على الرشوة في مقابل إدخال الطعام الطازج.