يصارع القصر القديم في مدينة بشار الجزائرية، عوامل السقوط وزحف الإسمنت، في غياب تام للعناية به وحمايته، من طرف السلطات المعنية، وهو الموغل في ذاكرة عمرها تسعة قرون.
لا تخلو مدينة جزائرية يزيد عمرها عن القرنين، من حي قديم يشكّل قلبها، يسمى في الشمال الساحلي "القصبة"، ومنها قصبة الجزائر العاصمة المصنفة ضمن التراث الإنساني، ويسمى في الجنوب الصحراوي "القصر"، مثل قصور القنادسة وتاغيت وتمنطيط وبوسمقون التي لا يقل عمرها عن سبعة قرون. ويظهر الشبه بين قصبات الشمال وقصور الجنوب في ضيق الأزقة والدروب المؤدية إلى البيوت التي تنفتح إلى الداخل، انسجامًا مع ثقافة الحريم، وعادة ما تنتهي إلى مبنى المسجد أو الزاوية القرآنية.
بعض هذه القصور التي تبنى عادة بالطين، وتسقّف بجذوع النخيل وجريده، حظي بالتصنيف إما وطنيًا أو عالميًا، ومنها حظي بالترميم والحماية القانونية، ضمن حماية التراث المادي، وبعضها لم يحظ بذلك، لأسباب كثيرة منها إهمال الجهات الإدارية الوصية عليه، فبقي عرضة للهدم والبيع الجزئي واستخلافه ببناءات إسمنتية جديدة، بلا روح ولا أبعاد حضارية.
من هذه القصور غير المصنفة، القصر القديم في مدينة بشار التي تبعد عن الجزائر العاصمة بألف كيلومتر جنوبًا، كان يشكّل قلب المدينة النابض، قبل أن يصير اليوم بقعة منسية، ومحاطة بالأحياء السكنية الجديدة، مثل وسط المدينة والبراريك وحوبة والد، حتى أنه بات لا يظهر للعيان، إلا إذا تم دخوله صدفة، أو قُصد انطلاقًا من نية سياحية مبيتة.
عكس هذا الواقع الذي ظل مدعاة لانزعاج نخبة المدينة، وفاعليها في مجال حماية التراث المادي واللامادي، كان قصر بشار، خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية، أين كانت المدينة تسمى "كولومب" على اسم جنرال قاد أول حملة عسكرية في المنطقة، تجمعًا نابضًا بالحياة والحركة، خاصة بعد اكتشاف الفحم عام 1908، وشق سكة للحديد تربط المنطقة بمينائي وهران والغزوات في الشمال الجزائري، وبوعرفة في المغرب ونيامي في النيجر وسيقو في مالي، وهو الخط الذي لم يعد اليوم شغّالًا.
دخلنا القصر صباحًا، من جهة ساحة المدينة الجديدة، فكأننا دخلنا زمنًا موغلًا في الماضي، إذ لا شبه بين البقعتين، من حيث طبيعة المكان والإنسان، ونبّهنا معلم متقاعد كان يقرأ كتابًا باللغة الفرنسية للمحامي علي هارون، حيث تم فتح أول مدرسة فرنسية في المنطقة عام 1906، إلى ما أسماها النظرة المتهكمة التي يحملها بعض سكان الأحياء الجديدة، إلى سكان القصر القديم، يقول: "في أوربا يُعد السكن في الفضاءات القديمة الزاخرة بالذاكرة، امتيازًا اجتماعيًا، وتعد العقارات فيها أغلى من تلك التي في الفضاءات المستحدثة، إلا عندنا، فقد أصبحنا نفكر بالمقلوب"، وأضاف رجل التعليم المتقاعد بنبرة متحسرة: "أخرجنا الاحتلال الفرنسي انتصارًا لذاكرتنا وهويتنا، فإذا بنا نصبح أول من يخرّبها ويخجل منها".
اقــرأ أيضاً
ينتمي بقايا سكان القصر إلى قبائل متعددة، منها أولاد عدي وأولاد الحيرش وأولاد عياد، وينقسمون إلى جيلين، في نظرتهم إلى الإقامة في المكان، جيل قديم يرى فيها من دواعي الراحة والهدوء، والحفاظ على ذاكرة الأجداد، وجيل الشباب الذي يصبو إلى الإقامة في أحياء جديدة توفر له خدمات أفضل.
في السياق يقول لنا فضيل. م (19 عامًا)، وقد التقيناه في فضاء صغير لألعاب الفيديو، إنه لا يجد حرجًا في أن يقيم في حي قديم، لو كان قديمًا وكفى، أما أن يكون متهالكًا ومهددًا بالسقوط، فالأمر لا يتعلق بالتنكر للذاكرة، بل ممارسة للحق في عيش أريح، "على الذين يتهمون الجيل الجديد بالتكبر على السكن في مثل هذه القصور، أن يجربوا ذلك أسبوعًا واحدًا فقط، ليختبروا قدرتهم على التأقلم مع الحر والأتربة المتساقطة على الأفرشة وفي الطعام، التراب يكون ممتعًا حين يكون تحت أقدامنا، لا فوق رؤوسنا".
أدخلنا السيد حسين. ر، بائع التوابل والأعشاب الطبية في سوق المدينة، إلى بيته في القصر، فوقفنا على تلك المفارقة في وجود آلات حديثة، مثل التلفاز والمبرد والثلاجة، داخل فضاء مشيد من الطين وجذوع النخيل، وكان الفرق صارخًا بين الأرضيات المبلطة ببلاط حديث، والأسقف التي يتدلى منها الجريد، غرفتان واسعتان وأخرى ضيقة وفناء يسمى محليًا بالحوش، به بقايا بئر مردومة.
هذا البيت في قصر بشار القديم، يعد واحدًا من بيوت قليلة بقيت مأهولة، بالمقارنة مع تلك التي سقطت تمامًا، أو هي آيلة للسقوط، أو تلك المعروضة للبيع، إذ لا يمكن أن يلتفت الداخل إلى المكان، إلى أي جهة من جهاته، من غير أن تواجهه كلمة "للبيع" مرفوقة برقم هاتف صاحب العقار، فلا يسعه إلا أن يتذكر الفيلم الجزائري "كرنفال في دشرة"، إن كان قد شاهده، وهو الواقع الذي أدى إلى الإخلال بالانسجام المعماري الذي يميز القصر، ويمنحه هوية خاصة، بسبب الطابع الإسمنتي الذي قامت عليه البناءات الجديدة التي شيدت خلفًا لتلك القديمة، من طرف غرباء عن القصر قاموا بشرائها.
هنا يكشف لنا أحد القيّمين على ضريح "سيدي عبد الله بن صالح"، ذلك أن المنطقة موغلة في التصوف تفكيرًا وممارسة، أن الأسعار البسيطة للعقار داخل قصر بشار، بالمقارنة مع تلك التي في المدينة الجديدة، جعل التجار وأصحاب رؤوس الأموال، يتهافتون على شراء ما هو معروض للبيع، وهدمه لإقامة بناءات ذات طابع غربي، عادة ما تكون فضاءات مخصصة للتجارة، ولأن معظم عقارات القصر، بحسبه، آلت وراثةً إلى الجيل الجديد الراغب في الانتقال إلى فضاءات حضرية، فلن يطول الوقت، حتى يصبح القصر القديم موجودًا في الصور والأشرطة الوثائقية فقط.
هذا المصير غير المستبعد للقصر، في ظل غياب أي تحرك للسلطات المعنية، يرعب النخبة المثقفة في المدينة، منها الباحث عبد الحفيظ جلولي، الذي يدعو المشرفين على قطاع التراث المادي، في حديث مع "العربي الجديد" إلى شراء المكان من مالكيه الأصليين، وترميمه وتحويله إلى فضاء سياحي وثقافي، حفاظًا على ذاكرة عمرها تسعة قرون.
اقــرأ أيضاً
بعض هذه القصور التي تبنى عادة بالطين، وتسقّف بجذوع النخيل وجريده، حظي بالتصنيف إما وطنيًا أو عالميًا، ومنها حظي بالترميم والحماية القانونية، ضمن حماية التراث المادي، وبعضها لم يحظ بذلك، لأسباب كثيرة منها إهمال الجهات الإدارية الوصية عليه، فبقي عرضة للهدم والبيع الجزئي واستخلافه ببناءات إسمنتية جديدة، بلا روح ولا أبعاد حضارية.
من هذه القصور غير المصنفة، القصر القديم في مدينة بشار التي تبعد عن الجزائر العاصمة بألف كيلومتر جنوبًا، كان يشكّل قلب المدينة النابض، قبل أن يصير اليوم بقعة منسية، ومحاطة بالأحياء السكنية الجديدة، مثل وسط المدينة والبراريك وحوبة والد، حتى أنه بات لا يظهر للعيان، إلا إذا تم دخوله صدفة، أو قُصد انطلاقًا من نية سياحية مبيتة.
عكس هذا الواقع الذي ظل مدعاة لانزعاج نخبة المدينة، وفاعليها في مجال حماية التراث المادي واللامادي، كان قصر بشار، خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية، أين كانت المدينة تسمى "كولومب" على اسم جنرال قاد أول حملة عسكرية في المنطقة، تجمعًا نابضًا بالحياة والحركة، خاصة بعد اكتشاف الفحم عام 1908، وشق سكة للحديد تربط المنطقة بمينائي وهران والغزوات في الشمال الجزائري، وبوعرفة في المغرب ونيامي في النيجر وسيقو في مالي، وهو الخط الذي لم يعد اليوم شغّالًا.
دخلنا القصر صباحًا، من جهة ساحة المدينة الجديدة، فكأننا دخلنا زمنًا موغلًا في الماضي، إذ لا شبه بين البقعتين، من حيث طبيعة المكان والإنسان، ونبّهنا معلم متقاعد كان يقرأ كتابًا باللغة الفرنسية للمحامي علي هارون، حيث تم فتح أول مدرسة فرنسية في المنطقة عام 1906، إلى ما أسماها النظرة المتهكمة التي يحملها بعض سكان الأحياء الجديدة، إلى سكان القصر القديم، يقول: "في أوربا يُعد السكن في الفضاءات القديمة الزاخرة بالذاكرة، امتيازًا اجتماعيًا، وتعد العقارات فيها أغلى من تلك التي في الفضاءات المستحدثة، إلا عندنا، فقد أصبحنا نفكر بالمقلوب"، وأضاف رجل التعليم المتقاعد بنبرة متحسرة: "أخرجنا الاحتلال الفرنسي انتصارًا لذاكرتنا وهويتنا، فإذا بنا نصبح أول من يخرّبها ويخجل منها".
ينتمي بقايا سكان القصر إلى قبائل متعددة، منها أولاد عدي وأولاد الحيرش وأولاد عياد، وينقسمون إلى جيلين، في نظرتهم إلى الإقامة في المكان، جيل قديم يرى فيها من دواعي الراحة والهدوء، والحفاظ على ذاكرة الأجداد، وجيل الشباب الذي يصبو إلى الإقامة في أحياء جديدة توفر له خدمات أفضل.
في السياق يقول لنا فضيل. م (19 عامًا)، وقد التقيناه في فضاء صغير لألعاب الفيديو، إنه لا يجد حرجًا في أن يقيم في حي قديم، لو كان قديمًا وكفى، أما أن يكون متهالكًا ومهددًا بالسقوط، فالأمر لا يتعلق بالتنكر للذاكرة، بل ممارسة للحق في عيش أريح، "على الذين يتهمون الجيل الجديد بالتكبر على السكن في مثل هذه القصور، أن يجربوا ذلك أسبوعًا واحدًا فقط، ليختبروا قدرتهم على التأقلم مع الحر والأتربة المتساقطة على الأفرشة وفي الطعام، التراب يكون ممتعًا حين يكون تحت أقدامنا، لا فوق رؤوسنا".
أدخلنا السيد حسين. ر، بائع التوابل والأعشاب الطبية في سوق المدينة، إلى بيته في القصر، فوقفنا على تلك المفارقة في وجود آلات حديثة، مثل التلفاز والمبرد والثلاجة، داخل فضاء مشيد من الطين وجذوع النخيل، وكان الفرق صارخًا بين الأرضيات المبلطة ببلاط حديث، والأسقف التي يتدلى منها الجريد، غرفتان واسعتان وأخرى ضيقة وفناء يسمى محليًا بالحوش، به بقايا بئر مردومة.
هذا البيت في قصر بشار القديم، يعد واحدًا من بيوت قليلة بقيت مأهولة، بالمقارنة مع تلك التي سقطت تمامًا، أو هي آيلة للسقوط، أو تلك المعروضة للبيع، إذ لا يمكن أن يلتفت الداخل إلى المكان، إلى أي جهة من جهاته، من غير أن تواجهه كلمة "للبيع" مرفوقة برقم هاتف صاحب العقار، فلا يسعه إلا أن يتذكر الفيلم الجزائري "كرنفال في دشرة"، إن كان قد شاهده، وهو الواقع الذي أدى إلى الإخلال بالانسجام المعماري الذي يميز القصر، ويمنحه هوية خاصة، بسبب الطابع الإسمنتي الذي قامت عليه البناءات الجديدة التي شيدت خلفًا لتلك القديمة، من طرف غرباء عن القصر قاموا بشرائها.
هنا يكشف لنا أحد القيّمين على ضريح "سيدي عبد الله بن صالح"، ذلك أن المنطقة موغلة في التصوف تفكيرًا وممارسة، أن الأسعار البسيطة للعقار داخل قصر بشار، بالمقارنة مع تلك التي في المدينة الجديدة، جعل التجار وأصحاب رؤوس الأموال، يتهافتون على شراء ما هو معروض للبيع، وهدمه لإقامة بناءات ذات طابع غربي، عادة ما تكون فضاءات مخصصة للتجارة، ولأن معظم عقارات القصر، بحسبه، آلت وراثةً إلى الجيل الجديد الراغب في الانتقال إلى فضاءات حضرية، فلن يطول الوقت، حتى يصبح القصر القديم موجودًا في الصور والأشرطة الوثائقية فقط.
هذا المصير غير المستبعد للقصر، في ظل غياب أي تحرك للسلطات المعنية، يرعب النخبة المثقفة في المدينة، منها الباحث عبد الحفيظ جلولي، الذي يدعو المشرفين على قطاع التراث المادي، في حديث مع "العربي الجديد" إلى شراء المكان من مالكيه الأصليين، وترميمه وتحويله إلى فضاء سياحي وثقافي، حفاظًا على ذاكرة عمرها تسعة قرون.