ظلّ متحفظاً وحذراً طوال مدة اللقاء. كانت المرة الأولى التي نلتقي فيها. جرى تدبير المقابلة على عجلٍ بواسطة صديقٍ كان أسيراً في سجون الاحتلال الإسرائيلي. ولأن لهذا الأسير، والذي اعتقل خلال عملية كان ينفذها وهو بعد فتى، دلالة عليه، وافق يومها على الاجتماع من أجل إجراء مقابلة والحديث عن العملية العسكرية الأشهر في بيروت.
كان ذلك قبل سبع سنوات. التقينا في منزله المتواضع الذي يقع في زقاق منطقة شعبية من مناطق بيروت. في البداية، أصرّ على أن يتّبع الهرمية الحزبية. طلب أن نحصل على إذن الأمين العام للحزب الشيوعي، فهو ما زال ملتزماً حزبياً. ولأنه ما يزال يحتفظ ببعض الاحتياطات الأمنية، رفض أن نسجّل صوته.
ربما لم تكن المرة الأولى التي يُكتبُ فيها عن "عملية بسترس" التي شارك في التخطيط لها وتنفيذها مع شابين آخرين وصبية، وجاءت إثر النداء الشهير الذي دعا اللبنانيين إلى الانتظام في "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية". لكن العملية الأولى ضد القوات الإسرائيلية المحتلة للعاصمة هي الأشهر على الإطلاق ولو تبعتها عمليات أخرى سرّعت في اندحار العدو وهروبه من بيروت. كما أن هذه العملية لم تكن الأخيرة التي ينفذّها مع رفاق له. ستتبعها عمليات أخرى في بيروت وفي مناطق محتلّة أخرى من لبنان.
عندما اجتاح الجيش الإسرائيلي بيروت، رمى كثيرون أسلحتهم في مستوعبات النفايات وانسحبوا إلى منازلهم أو إلى أماكن أخرى. هذا ليس سرّاً. هناك قصص كثيرة تروى في هذا السياق. لكنه، ورفاقه، لم يكونوا من هذه الفئة. كانوا من الفئة المعاكسة تماماً.
كان، كلما عدنا خلال المقابلة إلى تفاصيل العملية التي شارك بتنفيذها في ذلك اليوم، يحرص على أن يكون كلامه بصيغة الجمع لا المفرد. فما حصل يومها هو نتيجة جهد جماعي. لم يعتبر الأمر بطولة وقتها ولم يعتبره كذلك لاحقاً. ظلّ يكرّر طوال الوقت أنه "واجب" لا أكثر. ولم يطلب ورفاقه شيئاً لأنفسهم. لا قبل التحرير ولا بعده.
****
صعدت سيارة للأجرة وكنت مستعجلاً. عندما نظرت إلى السائق صاحب البنية الضخمة عرفته على الفور، مع أنه لم يتذكّرني. دردشنا قليلاً. استحضرنا حال البلد المزرية لاسيما في ما وصلت إليه من مذهبيات قميئة. كان مصرّاً في حديثه على أن خدمات مثل الكهرباء والمياه والبيئة النظيفة ورفع الحدّ الأدنى للأجور هي حقوق لا يكفي أن يطالب بها المواطن، بل يجب أن يناضل للوصول إليها.
سائق الأجرة الذي رمى يوماً قنبلةً على الجنود الإسرائيليين ذات مساءٍ باردٍ من أيلول العام 1982 لم ييأس من البلد بعد. ما زال على إيمانه بها وحبّه لها بالرغم من كل شيء.
اقــرأ أيضاً
كان ذلك قبل سبع سنوات. التقينا في منزله المتواضع الذي يقع في زقاق منطقة شعبية من مناطق بيروت. في البداية، أصرّ على أن يتّبع الهرمية الحزبية. طلب أن نحصل على إذن الأمين العام للحزب الشيوعي، فهو ما زال ملتزماً حزبياً. ولأنه ما يزال يحتفظ ببعض الاحتياطات الأمنية، رفض أن نسجّل صوته.
ربما لم تكن المرة الأولى التي يُكتبُ فيها عن "عملية بسترس" التي شارك في التخطيط لها وتنفيذها مع شابين آخرين وصبية، وجاءت إثر النداء الشهير الذي دعا اللبنانيين إلى الانتظام في "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية". لكن العملية الأولى ضد القوات الإسرائيلية المحتلة للعاصمة هي الأشهر على الإطلاق ولو تبعتها عمليات أخرى سرّعت في اندحار العدو وهروبه من بيروت. كما أن هذه العملية لم تكن الأخيرة التي ينفذّها مع رفاق له. ستتبعها عمليات أخرى في بيروت وفي مناطق محتلّة أخرى من لبنان.
عندما اجتاح الجيش الإسرائيلي بيروت، رمى كثيرون أسلحتهم في مستوعبات النفايات وانسحبوا إلى منازلهم أو إلى أماكن أخرى. هذا ليس سرّاً. هناك قصص كثيرة تروى في هذا السياق. لكنه، ورفاقه، لم يكونوا من هذه الفئة. كانوا من الفئة المعاكسة تماماً.
كان، كلما عدنا خلال المقابلة إلى تفاصيل العملية التي شارك بتنفيذها في ذلك اليوم، يحرص على أن يكون كلامه بصيغة الجمع لا المفرد. فما حصل يومها هو نتيجة جهد جماعي. لم يعتبر الأمر بطولة وقتها ولم يعتبره كذلك لاحقاً. ظلّ يكرّر طوال الوقت أنه "واجب" لا أكثر. ولم يطلب ورفاقه شيئاً لأنفسهم. لا قبل التحرير ولا بعده.
****
صعدت سيارة للأجرة وكنت مستعجلاً. عندما نظرت إلى السائق صاحب البنية الضخمة عرفته على الفور، مع أنه لم يتذكّرني. دردشنا قليلاً. استحضرنا حال البلد المزرية لاسيما في ما وصلت إليه من مذهبيات قميئة. كان مصرّاً في حديثه على أن خدمات مثل الكهرباء والمياه والبيئة النظيفة ورفع الحدّ الأدنى للأجور هي حقوق لا يكفي أن يطالب بها المواطن، بل يجب أن يناضل للوصول إليها.
سائق الأجرة الذي رمى يوماً قنبلةً على الجنود الإسرائيليين ذات مساءٍ باردٍ من أيلول العام 1982 لم ييأس من البلد بعد. ما زال على إيمانه بها وحبّه لها بالرغم من كل شيء.