تتهادى سيارة الأجرة في سيرها حتى تصل إلى الزبون الواقف عند ذلك التقاطع في العاصمة اللبنانية بيروت. كلّ ما في سيارة "المرسيدس القطش" يوحي بالقِدم، من لونها البيج إلى المنشفة المتدلية من زجاج نافذة سائقها. السائق نفسه يوحي بالقدم.
يعرّف عن نفسه: "أنا أبو أحمد عيتاني، من راس بيروت". يضيف: "أصبت بقذيفة خلال حرب تموز (2006) ففقدت معظم قدرتي على السمع". ولادته في منطقة رأس بيروت وإصابته تلك، من أبرز التفاصيل التي يركّز عليها الرجل الستيني، وهو يقود سيارته التي يعمل عليها منذ عشرات السنوات. يُذكر أنّ أبناء رأس بيروت يفاخرون في انتمائهم إلى منطقتهم التي "توسّعت منها عاصمة لبنان"، ويحصرون انتماء "البيارتة" بسبع عائلات فقط أكبرها "آل عيتاني".
يستفيد أبو أحمد من شاب يجلس في المقعد الأمامي لمفاوضة الزبائن الذين ينتظرون سيارة أجرة. السماعة التي ثبّتها في أذنه اليمنى تساعده، لكنّها لا تكفي لوحدها.
أشهر طويلة استغرقها أبو أحمد بعد إصابته في "حرب تموز"، قبل أن يعود إلى قيادة سيّارة الأجرة ويبدأ بقراءة شفاه زبائنه، وهم موظفون وربات منازل ينتظرون سيارة أجرة تقلّهم في شوارع بيروت.
كان أبو أحمد يقلّ خمسة ركّاب عندما باغتهم صاروخ، رمته طائرة إسرائيلية، على مقربة من مستشفى بهمن في الضاحية الجنوبية لبيروت في شهر يوليو/ تموز من عام 2006. يسرد: "طلبت منّي سيّدة وبناتها إيصالها إلى المستشفى. في اليوم نفسه، سمعت أنّ حزب الله تبنّى خطف جنود إسرائيليين، لكنّني لم أكن قد علمت بعد بأنّ الإسرائيليين قصفوا الجنوب وباشروا بالضاحية". يتابع: "لم أستفق إلا عند سحبي من السيارة، من تحت ركام مبنى قريب من المستشفى. الحمدلله". أخبره أحد الشبان، الذين أنقذوه، بأنّ سيارته طارت على وقع الصاروخ قبل أن تستقرّ عند المبنى الذي انهار من جرّاء القصف. بعدها، لم يكن يمتلك الرجل رفاهية التقاعد، فعاد إلى القيادة سريعاً.
لأبي أحمد حسّ فكاهي يساعده في التقرّب من الزبون الجالس بالقرب منه، فيتحوّل إلى مترجم له. ولا تخلو جعبته من قصص يرويها عن عمله كسائق أجرة في مدينة نيويروك في سبعينيات القرن الماضي، التي قصدها مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975). يتوقف أبو أحمد عندما يلمح سائحاً أجنبياً، ويسأله بلكنة: "نيويورك؟". يبتسم الأجنبي ويردّ بالنفي. يضحك أبو أحمد قائلاً: "عملت على السيارات الصفراء الشهيرة. هناك يدفع الزبون على العداد ولا يفاوض".