يحدث أن يكون الجزائري غارقاً في زجاجة نبيذ، لكنّه سوف يضربك بالزجاجة نفسها في حال سمعك تذكر رمزاً دينياً بسوء، أو تلمّح إلى ذلك مجرّد تلميح. قد يكون غير ممارس للطقوس الدينية المعروفة، مثل الصلاة والصيام، لكنّه يهاب أن تطلب منه القسَم على المصحف في أمر ليس صادقاً فيه، خوفاً من العقاب الربّاني. أمّا إذا استخدمت معه عبارات دينية وأنت تطلب منه غرضاً، فإنّك قادر على الحصول عليه بيسر واضح. وقد أدرك المهاجرون في البلاد هذه الروح لدى الجزائري، فباتوا يزرعون "الله ورسوله" في العبارات التي يستخدمونها في تسوّلهم، مراهنين عليها في استدرار الشفقة، أكثر من مراهنتهم على مظاهرهم المزرية.
ما يبدو تناقضاً في هذه النزعة، يراه الباحث في الإسلاميات، سعيد جاب الخير، في حديث مع "العربي الجديد"، "علامة على مفهوم مختلف للتديّن لدى الإنسان الجزائري، أساسه تقديس المعبود والرموز المحيلة أكثر من تقديس العبادة والطقوس المحيلة". ويوضح أنّ "علاقة الجزائري بالتصوّف تمتدّ إلى القرون الأولى لدخول الدين الإسلامي إلى الفضاء الجزائري، في القرن الثامن للميلاد. وقد لعب المتصوفة بطرقهم المختلفة دوراً حاسماً في تشكيل الوعي الديني للجزائريين".
من تجليات ذلك، بحسب جاب الخير، التساهل في الفعل أو ما يُسمى في القاموس الديني معصية، إيماناً برحمة الإله في مقابل التهيّب من ازدراء الرموز الدينية من أنبياء وكتب وملائكة وأولياء صالحين، وذلك "تماماً كمن يقبل أن يعصي وصايا أبيه، لكنّه لا يتسامح مع من يشتم هذا الأب أو يقلل من احترامه". هل هذا المنطق يؤدّي إلى تناقضات معيّنة في السلوك الاجتماعي العام؟ يجيب: "أخطر ثماره تواطؤ الجماعة على إضفاء القداسة على سلوكياتها المرتبطة بالطقوس الدينية، فيصبح نقدها نقداً للدين بحدّ ذاته. وهو ما يجعل التديّن عائقاً في طريق التغيير، ويصبح الابتزاز باسمه مقدساً".
من مظاهر هذا "الابتزاز المقدّس" في اليوميات الجزائرية، التشويش على راحة الجيران والاستحواذ على المساحات العامة في أثناء حفلات الزفاف، بحجّة أنّ الزواج "نصف الدين"، وأيّ اعتراض على مظاهر الاحتفاء به قد يُفهم اعتراضاً على نصف الدين أو كله في نظر البعض.
يرتفع صوت المسجّلات أو الفرق الموسيقية، إلى وقت متأخّر من الليل، وقد تكون كلماتها بذيئة بما يخدش الحياء العام، مرفقة بالمفرقعات وأصوات الشباب والمراهقين. فتصبح ليلة العرس تلك جحيماً للساكنين في الجوار. بالنسبة إلى حكيم ش. فإنّ "الويل لمن كان مريضاً أو عاملاً مطالباً بالنوم باكراً أو لديه رضيع حساس تجاه الضجيج". ويخبر حكيم: "في مرّة، انتفضت في وجه عرس تجاوز الحدود، فقيل لي إنّك تسكت على مظاهر خليعة خلقتها العزوبية، وها أنت تحتجّ على زواج يوفر العفة لصاحبه. أجبت أنّني لا أحتج على الزواج بل على الاحتفال به بمنطق داعر لا يراعي حقّ الناس في الراحة".
كانت مظاهر الغضب بادية على سائق الأجرة رابح ب. في مدينة منصورة، والسبب أنّه بقي عالقاً في الزحمة لمدّة ساعتين بسبب موكب جنائزي. يقول: "سدّوا الطريق بعشرات السيارات التي كانوا في غنى عنها. المقبرة كانت على مقربة من بيت الميت". ويسأل: "ألم يكن من الذوق والثواب أن يذهبوا راجلين، فيعفوا الناس من تضييع وقتهم؟ من المؤسف أن يرى الواحد المنكر ولا يستطيع أن يُنكره صراحة، خوفاً من اتهامه بالتحسس من الدين نفسه. والغريب أنّ رجال الأمن أنفسهم راعوا هذا المعطى وباتوا يجاملون أصحابه على حساب واجب تطبيق القانون".
إلى ذلك، يقول أحد رجال الشرطة في مدينة رويبة: "طلبنا مرّة من المشرفين على أحد المساجد ألا ينقلوا الصلوات الخمس عبر مكبّر الصوت، لأنّ المطلوب والمنطقي هو الاكتفاء بنقل الأذان لإعلام الناس بحلول وقت الصلاة. فشاع أنّنا ملحدون وكارهون لدين الله، وكادت أن تنشب أعمال شغب لولا التدخّل بالحسنى". ويضيف: "ليست وظيفة الشرطة تقويم المنطق الأعوج، تلك وظيفة الجامعات والجمعيات والجوامع".
تُعدّ الأعياد من المناسبات التي يجد فيها كثيرون أنفسهم مجبرين على الخضوع للمهيمن، وعيد الأضحى الذي حلّ أخيراً مثال. فباعة الأضاحي، ومستلزمات ذبحها وسلخها، ينتشرون على الأرصفة وفي الأحياء السكنية، الأمر الذي يجعلها أشبه بزريبة مفتوحة وتنتفي مظاهر التمدّن والنظافة، وقد وصل الأمر بالبعض إلى نشر صورهم مع كباشهم في المترو والقطارات والترامواي. يقول ياسين فضيل إنّه لا يفهم كيف تُضفى قداسة العيد على سلوكيات ليست من الدين والذوق والصحة العامة في شيء. ويستغرب: "هل من احترام قداسة العيد أن يباع التبن والعلف الخاصان بالكباش في أماكن حساسة مثل محطات السيارات، ومداخل العمارات؟ هل من الدين تعطيل مصالح الناس؟". ويشير إلى خطورة انتشار تجارة أدوات الذبح والسلخ على الأرصفة بطريقة تهدّد الأمن العام، سائلاً: "من يضمن ألا تذهب تلك السكاكين والسواطير إلى الأيدي المجرمة؟".