"لا أذهب إلى المدرسة، لأنّني أساعد والدي في تنظيف الطرقات". هكذا يختزل حبيب التهامي (10 أعوام)، سبب عدم التحاقه بالمدرسة كسواه من الأطفال، فهو من ذوي البشرة السوداء الذين يعانون نتيجة التمييز الاجتماعي في اليمن، ويُطلَق عليهم "المهمّشون" أو "الأخدام". لا يعرف حبيب شيئاً عن المدرسة من الداخل، بل يكتفي بمشاهدة التلاميذ وهم يخرجون منها، بينما ينظّف هو ما خلّفوه وراءهم أمام المحلات التجارية المحيطة بمدرستهم.
في صباح كلّ يوم، يصحو حبيب ليرافق والده إلى مكان عمله في صنعاء، حيث يفرزان العلب البلاستيكية من بين النفايات قبل بيعها. يقول والد حبيب: "لا يتابع أبناؤنا بمعظمهم دراستهم، لأنّهم لا يعامَلون كالأطفال الآخرين. كذلك لا أعرف مهمّشاً أصبح صاحب وظيفة رفيعة المستوى". ويشدّد على أنّ "المجتمع ينبذنا وإنْ رفع شعارات العدل والمساواة". يضيف الوالد: "أدخلت عدداً من أولادي إلى المدرسة في السابق بالقوة، لكنّهم تسرّبوا لأنهم يشعرون بالاختلاف. وفضّلوا العمل منذ وقت مبكر". ويلفت إلى أنّ المدارس لا ترفض تزويدهم بالعلم، لا بل تحرص على ذلك، لكنّهم يجدون حواجز تفصلهم عن الأطفال الآخرين، وهذا ما يزيد من عزلتهم.
يستفيد والد حبيب من أبنائه الذين يساعدونه في العمل لتوفير متطلبات أسرته، "لكنّني أعرف جيداً أنّ مستقبلهم لن يكون مستقراً إذا لم يتابعوا تعليمهم". يضيف: "أشعر بالقهر عندما أرى التلاميذ يذهبون إلى مدارسهم في كلّ صباح. لكن، ماذا نفعل؟ كُتِب علينا أن نبقى هكذا". ويشير إلى أنّ "منظمات حقوقية قليلة كانت تحاول الدفع بأطفالنا نحو المدرسة من خلال برامج عدّة وتوفير المال للأسر، إلا أنّ الحرب قضت تماماً على ذلك واضطروا إلى مساعدة أسرهم في توفير الغذاء".
لا يختلف حال سهام (13 عاماً) عن حال حبيب، فالمدرسة لا تعنيها ويمكن العثور عليها مع صديقات لها بالقرب من أحد أسواق صنعاء عند ظهيرة كلّ يوم. ويبحثنَ عمّن يعطيهنّ بعض النقود أو الطعام ليعدنَ به إلى أسرهنّ. تقول إنّ "لا أحد من أفراد أسرتي يلتحق بالمدرسة. ومَن يفعل، لا يكمل دراسته. علينا أن نتساعد لتأمين لقمة العيش".
تجدر الإشارة إلى أنّ فتيات المهمّشين يتزوّجنَ في سنّ مبكرة، ويأتي ذلك كسبب إضافيّ لعدم قدرتهنّ على استكمال تعليمهنّ بعد انشغالهنّ بالأعمال المنزلية أو العمل خارجه لتوفير المال.
في هذا السياق، ينفي التربوي عادل علي، وجود تهميش عرقيّ في اليمن، معللاً ذلك بأنّ "ثمّة قبائل يمنية أفرادها من ذوي البشرة السوداء، في مناطق عدّة، لا يعامَلون كما يعامَل المهمّشون". ويتحدّث علي عن "قرار سياسي في مرحلة تاريخية عمد إلى عزل هذه الفئة (المهمّشون) التي تُعرَف محلياً بالأخدام، عن المجتمع. لذا، تعامل المجتمع بازدراء معهم، الأمر الذي جعلهم يظنّون بأنّ لا حظ لهم في التعليم". يضيف أنّ "الأمر أثّر تأثيراً كبيراً على مستوى حماسهم للتعليم وإلحاق أبنائهم بالمدارس. يبقى أنّ بعض الأهل كانوا يفعلون، لكنّ أبناءهم لم يكملوا المرحلة الابتدائية أو الإعدادية". ويشير إلى أنّ "هذا الشعور كان قد تراجع في الآونة الأخيرة قبل الحرب، لكنّه عاد بعد توقّف الأنشطة والبرامج التي كانت تدفع بهؤلاء نحو التعليم".
ويشرح علي أنّ "معالجة هذه المشكلة تأتي في شقَّين. الأوّل تضطلع به الحكومة والمجتمع، إذ لا بدّ من أن تبذل هاتان الجهتان جهوداً إضافية لدمج فئة المهمّشين بالمجتمع أكثر وكذلك للدفع بأبنائهم نحو المدارس. أمّا الشقّ الثاني، فهو مهمّة المهمّشين أنفسهم الذين يتوجّب عليهم تغيير نظرتهم إلى أنفسهم بالإضافة إلى دمج أبنائهم في التعليم حتى يغيّروا مستواهم الاجتماعي". ويشدّد على أنّ "وضع فئة المهمّشين في اليمن لن يتغيّر إلا بالتحاق أبنائهم بالمدارس. إذا دخلوا إلى المدارس وتعلّموا وتخرّجوا، فهم سيتمكّنون من إيجاد أعمال تضمن لهم مصادر دخل مناسبة، بالتالي ينتقلون في نهاية المطاف من طبقة اجتماعية مفروضة عليهم إلى طبقة جديدة لا يختلفون بها عن اليمنيين الآخرين".
وكان مسح أعدّته "منظمة سول للتنمية" قد بيّن أنّ 95 في المائة من نحو 35 ألف فرد من المهمّشين الذين شملتهم الدراسة، قد تسرّبوا من التعليم الأساسي والثانوي. وأعاد المسح أبرز الأسباب إلى ارتفاع كلفة التعليم وعدم توفّر المدارس وإعراض الأطفال عن مواصلة التعليم، موضحاً أنّ كلّ ذلك يُظهر غياب الاهتمام الحكومي والدولي بتعليم مثل هذه الفئات ودعم حياتهم اقتصادياً. وأوضحت نتائج المسح أنّ أطفال المهمّشين أكثر عرضة للتسرّب المدرسي بمقدار الضعفَين، بالمقارنة مع الأطفال اليمنيين الآخرين. وفصّلت أنّ 58 في المائة من أولئك الأطفال (6 - 14 عاماً) هم خارج المدرسة بالمقارنة مع 27 في المائة من الآخرين. ولفتت النتائج إلى أنّ النسبة الأكبر من هؤلاء لم تلتحق بالمدرسة نهائياً.
إلى ذلك، خلصت دراسة أخرى لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) في مدينة تعز، إلى أنّ 87 في المائة من المهمّشين يتسرّبون قبل الوصول إلى الصف التاسع. كذلك كانت الإناث أقلّ حظاً من الذكور في التعليم، بسبب احتياج الأسرة إليهنّ للعمل وعدم الثقة بجدوى تعليمهن.
ويعاني المهمّشون نتيجة ضعف خطط التنمية، من دون أن تقدّم أيّ جهة يمنية أو دولية إحصاءات عن عددهم وأوضاعهم. وهذه الفئة تصل نسبة الأميّة في صفوفها إلى 90 في المائة، بحسب "اليونيسف". ويتركّز المهمّشون بغالبيتهم في محيط مدن تعز وعدن وزبيد وصنعاء والحديدة، مع أقليّة في ريف الحديدة.