منذ عام 2008، فُقِد أكثر من 300 مهاجر جزائري في عرض البحر، لكنّ شباب الجزائر يصرّون على خوض التجربة وتحقيق "الحلم الأوروبي".
منذ الثالث من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، تبحث عائلة مصباحي من ولاية عنابة (شمال شرق) عن ابنها أحمد الذي ركب أحد قوارب الموت في اتجاه السواحل الإيطالية، قبل أن يختفي أثره. هو لم يتّصل من إيطاليا مثلما وعد شقيقه، في حال وصل إلى هناك، لذا فإنّ عائلته تجهل مصيره. وكما هي حالها، كذلك الأمر بالنسبة إلى عائلات كثيرة أخرى اختار أبناؤها الهجرة السريّة بعدما سُدّت الأبواب في وجوههم.
في مكتبه في مدينة عنابة، يتابع كمال بلعابد، رئيس جمعية عائلات المهاجرين السريين المفقودين، يومياً مستجدّات قضيّة هؤلاء، ومن بينهم ابنه. ومع توالي الأخبار عن موجات جديدة من الهجرة السريّة، يستعيد كمال مأساته ومأساة ابنه الذي كان يطمح إلى تحقيق "الحلم الأوروبي". يقول بلعابد: "مع كلّ قارب موت، أستعيد صورة ابني. ومع كلّ خبر عن قارب هجرة، أستعيد مأساتي وأتخيّل مآسي مئات العائلات التي تفقد أولادها مثلما فقدت ولدي". ويخبر "العربي الجديد" بأنّ "جمعيتنا تعمل على ملف أكثر من 300 مهاجر جزائري فُقدوا في عرض البحر منذ عام 2008، فيما السلطات الجزائرية تتجاهل مأساتنا الإنسانية".
تجدر الإشارة إلى أنّ عدد المفقودين الكبير في عرض البحر لم يمنع الشباب من ركوب قوارب الموت في موجات هجرة جديدة راحت تكثر في الأشهر الأخيرة بصورة لافتة. وشهر سبتمبر/ أيلول الماضي كان حافلاً بتلك الموجات السرية التي قد تنتهي إلى ثلاثة مخارج مختلفة، إمّا اعتراضها من قبل وحدات خفر السواحل وتوقيف المهاجرين، أو تبلغ مصيراً مجهولاً بسبب تعطّل القوارب أو تخلّص شبكات الهجرة من المهاجرين، أو تحقيق "الحرّاقة " (الاسم الذي يطلق على المهاجرين السريين) "الحلم الأوروبي" عبر البحر.
تشير البيانات الرسميّة إلى أنّ وحدات خفر السواحل الجزائرية اعترضت 341 مهاجراً سرياً خلال شهر يوليو/ تموز الماضي و584 مهاجراً سرياً خلال شهر سبتمبر/ أيلول الماضي. وحتى السابع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، اعترضت 699 مهاجراً سرياً في مناطق متفرقة من البلاد. يُذكر أنّه خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري، بلغ عدد المهاجرين السريين الذين اعتُرِضَت قواربهم 592 مهاجراً سرياً. والفارق الكبير في الأرقام يؤشّر إلى تزايد فعلي وقياسي في مستويات الهجرة السريّة. يُذكر أنّ إحصاءات أخيرة تفيد بأنّ ثلاثة آلاف و330 مهاجراً سرياً جرى اعتراض قواربهم عند السواحل الجزائرية بين يناير/ كانون الثاني الماضي وسبتمبر/ أيلول الماضي. وهذه الأرقام تنذر بالخطر وتشير إلى نزيف بشريّ حاد في الجزائر، على خلفيّة تعقّد الأوضاع الاجتماعية ورفض الشباب للوضع المعيشي الراهن والمتناقض كلياً مع مقدّرات الجزائر. ويصحّ الحديث عن نزيف حقيقي في حال مقارنة هذه الأرقام مع أرقام المهاجرين الموقوفين في السنوات الأخيرة. على سبيل المثال أوقف 1170 مهاجراً سرياً في عام 2010، فيما أوقف 980 مهاجراً في عام 2011، و630 مهاجراً في عام 2012.
وتمثّل سواحل عنابة (شمال شرق) ووهران (شمال غرب) أبرز نقطتَي انطلاق بالنسبة للمهاجرين السريين، ليس فقط لقربها من السواحل الإيطالية بالنسبة إلى عنابة والسواحل الإسبانية بالنسبة إلى وهران، إنّما لأنّهما كذلك منطقتان تضمّان أحياء فقيرة كثيرة يهجرها مئات الشباب أسبوعياً تحت إشراف شبكات متخصصة في ترحيلهم.
... ووطئوا أرض الأحلام (أليساندرو فوكاريني/ فرانس برس)
|
ويتحدّث الصحافي الاستقصائي رضوان بو عالية المهتمّ بملف الهجرة السريّة والذي كان قد شارك في مغامرة لرصد واحدة من الهجرات السريّة على متن قارب، عن "ثمّة شبكات تشرف على تنظيم رحلات الهجرة عبر قوارب الموت، والمهاجرون السريّون يدفعون ما بين 500 دولار أميركي وألف للمهرّبين". ويلفت لـ "العربي الجديد" إلى أنّ "شباباً كثيرين فشلوا في الهجرة عبر البحر من قبل، لكنّهم يصرّون على المحاولة من جديد".
يضيف بو عالية أنّه "في 26 سبتمبر/ أيلول الماضي كنت شاهداً على مطاردة وحدة من خفر السواحل لقارب مهاجرين سريين عند سواحل وهران". وهو ما يدلّ على أنّ المطاردة وبغضّ النظر عن بعدها الأمني، فإنّها تبرز عدم استسلام الشباب المهاجرين الذي يدركون أنّهم يخرقون قوانين الهجرة، ورفضهم الرضوخ لوحدات خفر السواحل، وتمسّكهم بحلمهم على الرغم من المخاطر التي تواجههم على صعيد السلامة الشخصية أو الملاحقة القانونية، خصوصاً أنّ الجزائر أصدرت في عام 2006 قانوناً يعاقب بسجن المهاجرين السريين.
وبغضّ النظر عن الأسباب والدواعي الاجتماعية التي تدفع الشباب إلى الهجرة في الفترة الأخيرة مع تفاقم حالة الإحباط الاجتماعي، فإن بو عالية يورد تفسيراً آخر، فيرى أنّ تزايد موجات الهجرة السريّة في هذه الفترة يعود إلى الظروف المناخية المناسبة التي تشجّع الشبكات على تنظيم رحلاتها قبل حلول فترة الاضطرابات الجوية وهيجان البحر في الشهر المقبل.
وتُطرَح في الجزائر أسئلة من قبيل: لماذا يهاجر شباب بلد نفطي مع بنية تحتية مقبولة إلى أوروبا، وأحياناً إلى بلدان تعيش أزمات اقتصادية؟ وكيف يمكن تفسير عودة موجات الهجرة السريّة من الجزائر إلى أوروبا في الأشهر الأخيرة؟ وهل لاستقبال دول أوروبية للاجئين السوريين تأثير على دفع الشباب الجزائري إلى الهجرة؟ فيشير في السياق الباحث في جامعة عنابة بلكبير بومدين إلى أنّ 10 آلاف جزائري وصلوا إلى أوروبا بطريقة غير قانونية منذ عام 2010، رابطاً بين تزايد معدّلات الهجرة السرية بإخفاق الجزائر في استغلال النفط لتحقيق التنمية.
ويشرح بومدين لـ "العربي الجديد" أنّ "الارتفاع اللافت في معدّلات الهجرة السرية لشباب الجزائر خلال الأشهر الأخيرة يعود إلى عوامل عدّة. ولا بدّ علينا ألا نغفل عاملاً مهماً وهو أنّ الشباب على تواصل مع العالم عبر شبكة الإنترنت، وبالتأكيد فإنّ تصوير استقبال أوروبا للاجئين السوريين دفع الشباب الجزائري إلى محاكاة اللجوء السوري بطريقة ما، على الرغم من أنّ الدول الأوروبية عموماً تضع الجزائر ضمن خانة الدولة الآمنة ولا تسمح للمهاجرين بالبقاء فيها وقد تعمد إلى ترحيلهم".
من جهته، يرى الدكتور نور الدين بلكيس أنّ "تزايد موجات الهجرة السرية في الفترة الأخيرة ترتبط بالتصريحات الأخيرة للمسؤولين الجزائريين وتحديداً رئيس الحكومة أحمد أويحيي بشأن إفلاس الخزينة العمومية وانهيار قدرات البلاد المالية". ويؤكد لـ "العربي الجديد" أنّ "مثل هذا الخطاب البائس يحفّز على الهجرة ولا يعطي أيّ أمل بتحسّن الأوضاع الاجتماعية"، قائلاً: "أظنّ أنّ الخطاب الرسمي الذي يتحدث عن أزمة اقتصادية معقدة تقلل من فرص تحقيق الترقية الاجتماعية، فاقم الظاهرة مع بداية استشعار سوء الأزمة". ولفت إلى أنّ "نشر المهاجرين تسجيلات فيديو لرحلاتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي يوحي بأنّها مريحة ويستدرج الشباب لخوض المغامرة. وأظنّ كذلك أنّ تلك التسجيلات أدّت دوراً مهماً في التسويق لذلك لدى شرائح شبابية واسعة. فكثيرون هم الشباب الذين نشأوا على ثقافة التكاليف والكسل، لذلك يجدون في صور الشباب الحرّاقة وهم يصلون إلى الضفّة الأخرى تشجيعاً على الهروب من المسؤولية والقبول بالواقع الجديد، فيختارون المغامرة".
تجدر الإشارة إلى أنّ تقرير وكالة "تحليل المخاطر في أوروبا" يبيّن أنّ الجزائر تحتلّ المرتبة العاشرة على قائمة الدول التي يحاول مواطنوها الهجرة بطريقة غير شرعية نحو أوروبا. كذلك يكشف تقرير لمنظمة فرونتاكس لحماية الحدود البحرية الأوروبية أنّ الجزائريين يأتون في الترتيب العاشر لجهة عدد المهاجرين الموقوفين منذ عام 2012 مع أكثر من ستة آلاف و352 حالة توقيف، ليمثّل المهاجرون الجزائريون 2.5 في المائة من مجمل المهاجرين الموقوفين في أوروبا.
يُذكر أنّ سلطات الهجرة في مختلف الدول الأوروبية أصدرت نحو ثلاثة آلاف و217 قراراً بالطرد في حقّ مهاجرين سريين جزائريين، لكنّ ثمّة صعوبة في ترحيل هؤلاء المهاجرين إلى الجزائر بسبب التعقيدات الإدارية وطول إجراءات الترحيل، وهو الأمر الذي يُعَدّ عاملاً آخر لصالح المهاجرين. والسلطات الإسبانية على سبيل المثال، لا ترحّل المهاجرين الموقوفين، بل تمنحهم وثيقة مغادرة لأراضيها لمدّة أسبوع وهي الفرصة التي يغتنمها الحرّاقة للتوغّل في عمق أوروبا، خصوصاً في اتجاه فرنسا وبلجيكا. وفي ذلك رفض واضح لدى الشباب للعودة إلى الجزائر، وتمسك حتى آخر رمق بالحلم الأوروبي الذي يتحوّل في أحيان كثيرة إلى مأساة وكابوس.