قبل 48 ساعة تقريباً، وقعت مجزرة جديدة في سورية، في خان شيخون. فأضيفت هذه المجزرة إلى قائمة مجازر اختلفت طبيعتها ومواقعها الجغرافية، فيما يتكرّر ضحاياها ومرتكبوها.
"وصلني استدعاء عاجل، فركبت سيارتي وتوجّهت إلى النقطة الطبية. حين ترجّلت، كان المشهد مرعباً. عشرات المصابين ممدّدون في الشارع أمام مدخل غرفة الطوارئ، من بينهم طفلان هامدان. راحوا ينادونني للدخول إلى غرفة الطوارئ، لكنّني لم أستطع تجاهل الطفلين. فحصْتهما سريعاً، فوجدت أنّ قلب أحدهما ما زال ينبض. كان في غيبوبة، فطلبت أن يحملوه ويدخلوه سريعاً. كان الجميع في حالة صدمة. لم يسبق لنا أن تعاملنا مع كارثة بهذا الحجم بلا دماء". هذا ما يرويه محمد الجيدو، وهو طبيب سوري يتنقّل في الشمال السوري، عن الثلاثاء - أوّل من أمس - الذي قضاه وهو يسعف مصابين استُهدفوا بالكيماوي في بلدة خان شيخون في ريف إدلب.
وسط الفوضى التي خلّفتها الكارثة، راح أهالي البلدة يتداولون أسماء الضحايا، فيما انتشرت أقاويل تحذّر من دفن المتوفين سريعاً. وكانت التحذيرات تقول إنّ من يقضي بغاز السارين قد يعود إلى الحياة من جديد بعد ساعات، وهذا ما حدث خلال مجزرة غوطة دمشق التي ارتكبها النظام السوري قبل أكثر من ثلاث سنوات. ويوضح الجيدو أنّ "مصابين كثيرين يفقدون الوعي وتتصلّب عضلاتهم وتتباطأ نبضات قلوبهم من جرّاء تعرّضهم إلى غازات سامة. لكنّه من الممكن أن يستفيقوا من جديد بعدما يخفّ تأثير المادة السامة على أجسادهم". يضيف: "بالتالي، يظنّ أهلهم أنّهم كانوا موتى وعادوا إلى الحياة. لكنّ هذا لا يحدث بعد عشرين دقيقة على توقّف القلب. والمريض لا يعود إلى الحياة بعد أن يعلن الطبيب وفاته".
ويشير الجيدو إلى أنّ "هذه الأقاويل جعلت كثيرين، أوّل من أمس، يأملون بأن يعود ضحاياهم إلى الحياة من جديد. فرفضوا دفنهم". ويتابع: "شاهدت أمهات يجلسنَ إلى جانب جثث أطفالهم ويرفضن أن يأخذها أحد. كانت إحداهنّ تقرأ القرآن بالقرب من جثة ولدها، فيما تصيح أخرى أنّه سوف يعود إلى الحياة ولن يتركها. على الرغم من كلّ ما سبق ورأيته من مجازر، لم أتخيّل في يوم أن أشهد هذا من قبل".
وكانت مديرية الصحة في ريف إدلب قد أفادت بأنّ عدد الوفيات الموثقة وصل إلى 74 شخصاً، من بينهم عدد من الكوادر الطبية والمسعفين و23 طفلاً و16 امرأة. أمّا عدد الإصابات فوصل إلى 557 إصابة، 54 منها نُقِلت إلى تركيا، فيما توفي ثلاث. يُذكر أنّ المديريّة لفتت إلى احتمال زيادة عدد الضحايا.
إلى ذلك، رجّحت مديريتَي الصحة والدفاع المدني في بيان أصدرتاه أمس الأربعاء، أنّ الصواريخ التي استهدفت البلدة محمّلة بكميات من غازَي الكلور والسارين، وذلك وفقاً لما تدلّ عليه الأعراض الصحية التي ظهرت على المصابين من سعال وضيق في التنفس واختلاجات وتضيّق في الحدقات (حدقات دبوسية) وتعرّق وإسهال.
على الرغم من عدم توفّر المعدات والتجهيزات اللازمة للتعامل مع الهجمات الكيماوية، إلا أنّ أفراد الدفاع المدني والكوادر الطبية في النقاط المحيطة بمكان المجزرة، لم يتردّدوا في القيام بما يستطيعون لإنقاذ المصابين، وإن اضطروا إلى ملامسة أجساد هؤلاء المصابين الملوّثة بالمواد السامة.
في السياق، يوضح جمعة الأسعد وهو ممرّض من معرّة مصرين، أنّ "كلّ المراكز الطبية المتبقية في الشمال السوري في المنطقة تفتقر إلى المعدات والأجهزة اللازمة لمثل هذه الحالات الخطرة. لذا أجرى الأطباء عمليات تقييم سريعة للمصابين فور وصولهم إلى مداخل غرف الطوارئ، وحوّلوا الحالات الخطرة إلى مستشفى معبر باب الهوى". يضيف: "نفتقد كذلك إلى المعدات اللازمة للتعامل مع إصابات الكيماوي، من ألبسة وأقنعة واقية للكادر الطبي، بالإضافة إلى غرف عزل وحمامات خاصة لحلّ المواد السامة من على أجساد المصابين، إلى جانب الأدوية الخاصة التي تعكس تأثير المواد السامة على الجهاز العصبي".
من جهته، يخبر حسن وهو طبيب يعمل في أحد المراكز الطبية الإسعافية في معرّة النعمان، أنّه "في البداية، وصلَنا عشرة مصابين دفعة واحدة، من بينهم خمسة أطفال ورضيع. عرفنا سريعاً أنّ إصابتهم كيماوية، فقمنا بمدّ المياه إلى غرفة الاستقبال لغسلهم. لكنّنا لم نستخدم أكثر القفازات البلاستيكية، فيما طلبت من المتطوّعين والمرافقين استخدام أكياس النيلون وهم ينزعون الألبسة عن المصابين". يضيف أنّ "عشرة مصابين آخرين وصلوا بعد ذلك. فحوّلنا الحالات الخطرة إلى الداخل، إذ لا تتوفّر لدينا أسرّة كافية. النقطة التي كنّا نعمل فيها نقطة احتياطية جُهّزت بطريقة بدائية لعلاج الجروح. أمّا الحالات الأخرى، فأسعفناها على أرض غرفة الاستقبال. كلّ ما قمنا به يتلخّص بمدّ المصابين بالاختناق بالأكسجين، فيما طلبنا في استغاثة سريعة أدوية لم تكن متوفّرة لدينا. لكنّ الرضيع لم يحتمل، وتوفي".
ويشير حسن إلى أنّه "طوال ذلك الوقت، لم يكن لديّ فكرة عن حجم المجزرة. وبعد تلقّي نداء استغاثة من مركز آخر من دون طبيب وتوجّهي إلى هناك، رأيت عشرات المصابين ممددين على الأرض. لم أعرف من أين أبدأ، لا سيما وأنّه لم يكن قد تسنّى للمسعفين تقييم الحالات".