لن يخطر في بال أحد أنّ حي "باكي" في قلب مدينة جنيف، بأبنيته الفرانكفونية، سيضم إحدى أقدم المكتبات العربية في أوروبا والوحيدة في سويسرا. لا يمكن اعتبارها مجرد مكتبة، إذ هي انعكاس لرحلة رجل في البحث عن هويته.
في قلب المكتبة، يجلس آلان، وهو يرتدي نظّارته السوداء وشاله الأحمر، ولا يتوقف عن تدخين سيجاره الصغير، تحيط به الكتب العربية وعدد كبير من الفرنسيين. كل شيء يوحي بأنّ الرجل مستشرق أرستقراطي ولد وعاش في جنيف، وقد أحبّ كنوز الشرق، وقرّر أن يحيط نفسه بها.
يبتسم آلان عندما يسأله أي زائر جديد "إن كان يتحدّث العربيّة"، ليردّ بلهجة فلسطينية: "أنا عربي اسمي منير آلان بيطار". وتتّسع ابتسامته حين يُسأل إن كان فلسطينياً، فيجيب: "أنا سوداني من أصل شامي". تعود أصول آلان إلى جدين عربيّين مسيحيين كاثوليكيين، أحدهما من حلب والآخر من جنوب لبنان من قضاء مرجعيون. في نهاية القرن التاسع عشر، هاجرا إلى مصر، وانتهى بهما المطاف في العاصمة السودانية الخرطوم. استمر أحدهما في العمل كطبيب، فيما كان الآخر تاجراً مغامراً، اختفى أثره بعدما ذهب للبحث عن إحدى شحنات التحف الأفريقية التي أرسلها من أفريقيا عبر النيل لتصديرها إلى بريطانيا، ولم يعرف عنه أهله شيئاً.
يقول آلان: "ربّما حمل والدي رضا بعضاً ممّا حمله إياه والده عن الحروب الطائفية في بلاد الشام، فرغب في فصلنا عن العالم العربي. ورغم إقامته في الخرطوم، إلا أنه عمل ما في وسعه لإبعادنا عن انتمائنا العربي، بدءاً من اختيار أسمائنا، وانتهاء بمدارسنا". يضيف مبتسماً: "جن جنون والدي عندما أرسلت له والدتي برقية من منزل عائلتها في القاهرة، حيث أنجبتني في عام 1953، لتخبره بأنها عمدتني وأطلقت علي اسم منير. فأرسل إليها برقية عاجلة وطلب منها تغيير الاسم". وجاء في البرقية: "أسماء أبنائنا روجيه وأنري وليليان وريمون، وبعدها تنجبين لنا منير؟ بدلي اسمه". يتابع: "غيرت اسمي إلى آلان. لكن الكاتب في القاهرة رفض تغيير الاسم، فحملت اسمين".
ناشط يساري
بعد بلوغه السادسة من عمره، أرسله والده إلى مدرسة داخلية في جنيف، على غرار بقية أشقائه الخمسة، حيث قضى فيها ست سنوات. كان يلتقي عائلته مرة واحدة في العام، خلال عطلة عيد الميلاد. يقول: "حين بلغت الثانية عشرة من العمر، انتقل والداي إلى جنيف بسبب مرض ألم بوالدي. كنت قد عرفت العالم في المدرسة الداخلية، ولم أكن قادراً على التأقلم مع حياة العائلة. وكان عزائي في إحدى الكنائس القريبة من منزلنا في جنيف، والتي كانت تعتنق لاهوت التحرير (اليسار الكاثوليكي الذي بدأ في أميركا اللاتينية). التحقت بالكشافة، وكنت أرتاد الكنيسة هرباً من المنزل. وكان أحد مباني الكنيسة ممنوحاً إلى ثلاث عائلات لم تنجب أطفالاَ. اعتدت قضاء الوقت مع أفرادها، إذ كنت أحب طريقة عيشهم. كنت أتشارك معهم المصاريف، إذ لطالما أحببت هذه الحياة الجماعية التشاركية".
بعدها، انضمّ آلان إلى الشبيبة الكاثوليكية التي كانت تعج بالتيارات اليسارية، وتحوّل إلى ناشط ينظّم التظاهرات. طرد من المدرسة الثانوية بعدما نظّم تظاهرة أمام كنيسة روتردام في المدينة، عرف بها مدير المدرسة. واكتشف أيضاً أنه كان يوزّع منشورات في الصف. يقول: "خلال تلك الفترة، اختبرت الصدام الأول مع هويتي. تقدّمت للحصول على الجنسية السويسرية لكنّ المعنيين رفضوا الأمر بسبب حادثة الطرد من الثانوية. في الوقت نفسه، حصل انقلاب جعفر النميري في السودان الذي أمم أملاك عائلتي، وسحبت الجنسية السودانية منا لاحقاً. فجأة، كان علي أن أواجه نفسي. أنا عربي مسيحي لا أتحدث العربية، وسوداني أبيض، بينما يقول السويسريون بأنّني لست منهم".
بدأ آلان البحث عن هويته، وكأيّ شاب اختبر ثورة 1968 في أوروبا. جال في الجزائر ومصر وسورية ولبنان، حيث قرر زيارة جدته في مرجعيون. يقول: "التقيت بخالي في بيروت لنذهب إلى مرجعيون. فأشار إلي بأن أترك صديقتي السويسرية في الفندق، وأقص شعري ولحيتي، قبل التوجه إلى جدتي. فعلت ذلك، لكن لم أحتمل الأمر كثيراً، واقتنعت بأن شيئاً لا يربطني بهم".
اقــرأ أيضاً
يوضح آلان أن علاقته باللغة العربية بدأت خلال رحلته في الشرق الأوسط. بعدها، تعرّف إلى فلسطين. "كان الرفاق اليساريون السويسريون يسألونني عن فلسطين كوني عربيا. لم أكن أعرف شيئاً عنها تقريباً. كما أن علاقة الفلسطينيين بهويتهم تشبه علاقتي بها نوعاً ما. هم بلا دولة وأنا كذلك. مجتمعهم يضم مسلمين ومسيحيين وماركسيين وقوميين، حتى وجدت نفسي بينهم، وصرت أتوجه كل فترة إلى باريس لألتقي بشباب في الجبهة الديمقراطية".
مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية، تطوع آلان في صفوف الجبهة الديمقراطية، وانتقل عبر قبرص إلى منطقة الدامور. يقول ضاحكاً: "في الدامور، واجهت أولى المصاعب، حين طلب مني إملاء الاستمارة التي كانت باللغة العربية. وبعد انتهاء فترة التدريب العسكرية القصيرة في الدامور، وضعوني على أحد الحواجز العسكرية على طريق الشوف. اعترضت على الأمر لكن من دون جدوى. لم أكن أعرف كيفية التعامل مع الدروز بلكنتي الفرنسية، وقد خفت أن يظنوني إسرائيلياً. علموني بعض العبارات، ولم أحفظ غير الله معك. وصرت أقولها لجميع أصحاب السيارات من دون تفتيشها".
تعلم آلان اللغة العربية في مخيم شاتيلا، ضمن فصول محو الأمية التي كانت موجهة للأطفال. يقول: "كان المدرّس يضرب بي المثل أمام الأطفال. أنظروا، هذا أجنبي يجيد الإنكليزية والفرنسية والإسبانية ويريد تعلم العربية، تعلموا". ويشير إلى أنه كان من الأشخاص الذين دخلوا مخيم تل الزعتر بعد المجزرة. "ذهبت مع صديقة سويسرية ولم أكن أجيد العربية بعد، وأمسكني حزب الكتائب حينها، فقلت لهم إنني مسيحي من مرجعيون وجئت كي أصور كيف خرب الفلسطينيون حياتنا. أخبروني عن كل المجازر، وكانوا سعداء وهم يشرحون كيفية تنفيذها. بعدها، سلّمت الصور إلى القيادة في الجبهة الديمقراطية".
هوية
يقول آلان إنّ تلك الفترة من حياته ساعدته على اكتشاف هويّته. "في تلك الفترة، وجدت هويتي وبتّ فلسطينياً وانخرطت في المشاكل بين التنظيمات، حتّى 17 فبراير/ شباط في عام 1982، تاريخ ميلادي. كنت أقطن في مبنى رحمة في الفاكهاني في بيروت، فوق مقرات الديمقراطية، فقصفه الإسرائيليون. وبدلاً من الاحتفال بعيد ميلادي مع الرفاق، كنت منهمكاً في إخراج جثثهم من تحت الأنقاض، وقد خسرت خمسة منهم. بالنسبة إلي، كانت هذه التجربة الأصعب".
عاد آلان إلى جنيف، وحاول طلب الجنسيّة السويسريّة مرة أخرى، لكن السلطات رفضت الأمر. "في تلك الفترة، لم تكن تهمة الإرهاب حاضرة كما اليوم، لكنهم عزوا سبب الرفض إلى علاقتي بتنظيم مسلح من بلدي الأصلي، يملك فكراً في الديمقراطية مختلفاً عن الديمقراطية السويسرية". يضيف: "الحزب الشيوعي السويسري فضحني برسائله التي كانت تخاطبني على أنني مندوب الجبهة الديمقراطية في جنيف".
اقــرأ أيضاً
في عام 1979، افتتح آلان مكتبة زيتونة. بداية، كان يبيع التسجيلات الثورية اليسارية المؤيدة للقضية الفلسطينية، وأعمال التطريز. وبالصدفة، التقى بإمام في جنيف يدعى محمود بوزوز. "ساعدني على تأسيس المكتبة، خصوصاً أن علاقتي بالثقافة العربية حتى ذلك الوقت كانت ضعيفة. لم يعمد إلى اختيار الكتب الدينية فقط، بل كل أنواع الكتب. كان منفتحاً جداً".
ويرى آلان أنّ أزمة الشباب الأوروبي المسلم الذي ينتمي إلى تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" وغيره من التنظيمات المتطرفة، هي البحث عن الهوية وليس أي شيء آخر. يضيف: "ليس للأمر علاقة بالدين أو السياسة. إنه بحث عن الهوية. لربّما كنّا محظوظين في أيامنا، لأن التيارات الناشطة كانت يسارية. لكنّ هناك عاملا آخر، وهو أن أوروبا في السبعينيات كانت منتعشة اقتصادياً، وكان الحصول على فرصة عمل أمراً سهلاً. كنا نعمل لأشهر عدة، نجمع المال ونذهب في رحلة طويلة. الأمور اليوم أصعب للغاية، حتى لغير المهاجرين".
بعد الموت
مرّت مكتبة "زيتونة" بمراحل عدّة منذ تأسيسها. يقول آلان إن المرحلة الأهم كانت "إقبال الطبقة الأرستقراطية الخليجيّة. ثم كانت مرحلة بيع أشرطة الفيديو، خصوصاً للأسر العربية في جنيف، كالأفلام المصريّة وغيرها، ثم مرحلة الكتب الدينية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول". يضيف: "بعد أحداث سبتمبر، بدأت مرحلة أخرى. كان هناك إقبال على الكتب الدينية. حينها، تعرفت على الفقه الإسلامي، وصحيح البخاري ومسلم والإمام النووي، لكن يبدو أنها انتهت. منذ أربع سنوات، لم نعد نبيع غير الروايات وكتب الطهي والأبراج".
يحلم آلان بأن تستمرّ المكتبة حتّى بعد وفاته. ورغم الظروف الصعبة التي مرّ بها قبل ثلاث سنوات، بسبب الخسارات المتلاحقة، سعى جاهداً إلى الحفاظ على الأنشطة التي تنظّمها المكتبة، على غرار معارض الفنانين العرب، ومشاركة المكتبة في معرض جنيف للكتاب، إضافة إلى بعض الحفلات الموسيقية للفنانين العرب، والشباب منهم.
يقول آلان: "قبل ثلاث سنوات، وبعدما تراكمت علي الديون إثر إصداري ملحق لومونود ديبلوماتيك بالعربية، وبعدما يئست من الحصول على أي دعم عربي للاستمرار، اضطررت إلى تحويل المكتبة إلى معهد للثقافات العربية والمتوسطية، كي أستطيع الحصول على دعم من المؤسسات السويسرية". يضيف: "المشكلة في الدعم الذي قد تقدمه أي مؤسسة عربية هي شروطها الكثيرة. يريدون السيطرة على كل شيء، حتى نوعية الكتب المعروضة للبيع. أحلم بأن يستمر معهد الثقافات العربية والمتوسطية حتى بعد وفاتي، وأعمل ما في وسعي كي يبقى هذا المكان مركزاً ثقافياً عربياً". يتابع: "نشاطاتنا، رغم كونها محدودة، لكنها لا تقل أهميّة عن معهد العالم العربي في باريس. حتى الآن، ليس هناك دعم عربي حقيقي. تمكن زيادة نشاطات المعهد ليتحول إلى سفارة عربية، تعيد تقديم الثقافة العربية كما تستحق، خصوصاً بعد الخراب الكبير الذي لحق بثقافتنا إثر الأحداث الأخيرة".
ولا ينسى آلان إخبارنا عن سبب اختيار اسم زيتونة للمكتبة. يقول: "في البداية، كانت الزيتونة رمزاً لفلسطين ورمزاً للعيش بسلام. بعدما تقدّمت في العمر، عرفت أنني لن أستطيع من جنيف تغيير شيء في العالم العربي، وأنني سأبقى خليطاً بين الغرب والشرق. قرأت في سورة النور في القرآن: "يُوقَدُ مِن شَجرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ". وكانت مكتبة "زيتونة".
اقــرأ أيضاً
في قلب المكتبة، يجلس آلان، وهو يرتدي نظّارته السوداء وشاله الأحمر، ولا يتوقف عن تدخين سيجاره الصغير، تحيط به الكتب العربية وعدد كبير من الفرنسيين. كل شيء يوحي بأنّ الرجل مستشرق أرستقراطي ولد وعاش في جنيف، وقد أحبّ كنوز الشرق، وقرّر أن يحيط نفسه بها.
يبتسم آلان عندما يسأله أي زائر جديد "إن كان يتحدّث العربيّة"، ليردّ بلهجة فلسطينية: "أنا عربي اسمي منير آلان بيطار". وتتّسع ابتسامته حين يُسأل إن كان فلسطينياً، فيجيب: "أنا سوداني من أصل شامي". تعود أصول آلان إلى جدين عربيّين مسيحيين كاثوليكيين، أحدهما من حلب والآخر من جنوب لبنان من قضاء مرجعيون. في نهاية القرن التاسع عشر، هاجرا إلى مصر، وانتهى بهما المطاف في العاصمة السودانية الخرطوم. استمر أحدهما في العمل كطبيب، فيما كان الآخر تاجراً مغامراً، اختفى أثره بعدما ذهب للبحث عن إحدى شحنات التحف الأفريقية التي أرسلها من أفريقيا عبر النيل لتصديرها إلى بريطانيا، ولم يعرف عنه أهله شيئاً.
يقول آلان: "ربّما حمل والدي رضا بعضاً ممّا حمله إياه والده عن الحروب الطائفية في بلاد الشام، فرغب في فصلنا عن العالم العربي. ورغم إقامته في الخرطوم، إلا أنه عمل ما في وسعه لإبعادنا عن انتمائنا العربي، بدءاً من اختيار أسمائنا، وانتهاء بمدارسنا". يضيف مبتسماً: "جن جنون والدي عندما أرسلت له والدتي برقية من منزل عائلتها في القاهرة، حيث أنجبتني في عام 1953، لتخبره بأنها عمدتني وأطلقت علي اسم منير. فأرسل إليها برقية عاجلة وطلب منها تغيير الاسم". وجاء في البرقية: "أسماء أبنائنا روجيه وأنري وليليان وريمون، وبعدها تنجبين لنا منير؟ بدلي اسمه". يتابع: "غيرت اسمي إلى آلان. لكن الكاتب في القاهرة رفض تغيير الاسم، فحملت اسمين".
ناشط يساري
بعد بلوغه السادسة من عمره، أرسله والده إلى مدرسة داخلية في جنيف، على غرار بقية أشقائه الخمسة، حيث قضى فيها ست سنوات. كان يلتقي عائلته مرة واحدة في العام، خلال عطلة عيد الميلاد. يقول: "حين بلغت الثانية عشرة من العمر، انتقل والداي إلى جنيف بسبب مرض ألم بوالدي. كنت قد عرفت العالم في المدرسة الداخلية، ولم أكن قادراً على التأقلم مع حياة العائلة. وكان عزائي في إحدى الكنائس القريبة من منزلنا في جنيف، والتي كانت تعتنق لاهوت التحرير (اليسار الكاثوليكي الذي بدأ في أميركا اللاتينية). التحقت بالكشافة، وكنت أرتاد الكنيسة هرباً من المنزل. وكان أحد مباني الكنيسة ممنوحاً إلى ثلاث عائلات لم تنجب أطفالاَ. اعتدت قضاء الوقت مع أفرادها، إذ كنت أحب طريقة عيشهم. كنت أتشارك معهم المصاريف، إذ لطالما أحببت هذه الحياة الجماعية التشاركية".
بعدها، انضمّ آلان إلى الشبيبة الكاثوليكية التي كانت تعج بالتيارات اليسارية، وتحوّل إلى ناشط ينظّم التظاهرات. طرد من المدرسة الثانوية بعدما نظّم تظاهرة أمام كنيسة روتردام في المدينة، عرف بها مدير المدرسة. واكتشف أيضاً أنه كان يوزّع منشورات في الصف. يقول: "خلال تلك الفترة، اختبرت الصدام الأول مع هويتي. تقدّمت للحصول على الجنسية السويسرية لكنّ المعنيين رفضوا الأمر بسبب حادثة الطرد من الثانوية. في الوقت نفسه، حصل انقلاب جعفر النميري في السودان الذي أمم أملاك عائلتي، وسحبت الجنسية السودانية منا لاحقاً. فجأة، كان علي أن أواجه نفسي. أنا عربي مسيحي لا أتحدث العربية، وسوداني أبيض، بينما يقول السويسريون بأنّني لست منهم".
بدأ آلان البحث عن هويته، وكأيّ شاب اختبر ثورة 1968 في أوروبا. جال في الجزائر ومصر وسورية ولبنان، حيث قرر زيارة جدته في مرجعيون. يقول: "التقيت بخالي في بيروت لنذهب إلى مرجعيون. فأشار إلي بأن أترك صديقتي السويسرية في الفندق، وأقص شعري ولحيتي، قبل التوجه إلى جدتي. فعلت ذلك، لكن لم أحتمل الأمر كثيراً، واقتنعت بأن شيئاً لا يربطني بهم".
يوضح آلان أن علاقته باللغة العربية بدأت خلال رحلته في الشرق الأوسط. بعدها، تعرّف إلى فلسطين. "كان الرفاق اليساريون السويسريون يسألونني عن فلسطين كوني عربيا. لم أكن أعرف شيئاً عنها تقريباً. كما أن علاقة الفلسطينيين بهويتهم تشبه علاقتي بها نوعاً ما. هم بلا دولة وأنا كذلك. مجتمعهم يضم مسلمين ومسيحيين وماركسيين وقوميين، حتى وجدت نفسي بينهم، وصرت أتوجه كل فترة إلى باريس لألتقي بشباب في الجبهة الديمقراطية".
مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية، تطوع آلان في صفوف الجبهة الديمقراطية، وانتقل عبر قبرص إلى منطقة الدامور. يقول ضاحكاً: "في الدامور، واجهت أولى المصاعب، حين طلب مني إملاء الاستمارة التي كانت باللغة العربية. وبعد انتهاء فترة التدريب العسكرية القصيرة في الدامور، وضعوني على أحد الحواجز العسكرية على طريق الشوف. اعترضت على الأمر لكن من دون جدوى. لم أكن أعرف كيفية التعامل مع الدروز بلكنتي الفرنسية، وقد خفت أن يظنوني إسرائيلياً. علموني بعض العبارات، ولم أحفظ غير الله معك. وصرت أقولها لجميع أصحاب السيارات من دون تفتيشها".
تعلم آلان اللغة العربية في مخيم شاتيلا، ضمن فصول محو الأمية التي كانت موجهة للأطفال. يقول: "كان المدرّس يضرب بي المثل أمام الأطفال. أنظروا، هذا أجنبي يجيد الإنكليزية والفرنسية والإسبانية ويريد تعلم العربية، تعلموا". ويشير إلى أنه كان من الأشخاص الذين دخلوا مخيم تل الزعتر بعد المجزرة. "ذهبت مع صديقة سويسرية ولم أكن أجيد العربية بعد، وأمسكني حزب الكتائب حينها، فقلت لهم إنني مسيحي من مرجعيون وجئت كي أصور كيف خرب الفلسطينيون حياتنا. أخبروني عن كل المجازر، وكانوا سعداء وهم يشرحون كيفية تنفيذها. بعدها، سلّمت الصور إلى القيادة في الجبهة الديمقراطية".
هوية
يقول آلان إنّ تلك الفترة من حياته ساعدته على اكتشاف هويّته. "في تلك الفترة، وجدت هويتي وبتّ فلسطينياً وانخرطت في المشاكل بين التنظيمات، حتّى 17 فبراير/ شباط في عام 1982، تاريخ ميلادي. كنت أقطن في مبنى رحمة في الفاكهاني في بيروت، فوق مقرات الديمقراطية، فقصفه الإسرائيليون. وبدلاً من الاحتفال بعيد ميلادي مع الرفاق، كنت منهمكاً في إخراج جثثهم من تحت الأنقاض، وقد خسرت خمسة منهم. بالنسبة إلي، كانت هذه التجربة الأصعب".
عاد آلان إلى جنيف، وحاول طلب الجنسيّة السويسريّة مرة أخرى، لكن السلطات رفضت الأمر. "في تلك الفترة، لم تكن تهمة الإرهاب حاضرة كما اليوم، لكنهم عزوا سبب الرفض إلى علاقتي بتنظيم مسلح من بلدي الأصلي، يملك فكراً في الديمقراطية مختلفاً عن الديمقراطية السويسرية". يضيف: "الحزب الشيوعي السويسري فضحني برسائله التي كانت تخاطبني على أنني مندوب الجبهة الديمقراطية في جنيف".
في عام 1979، افتتح آلان مكتبة زيتونة. بداية، كان يبيع التسجيلات الثورية اليسارية المؤيدة للقضية الفلسطينية، وأعمال التطريز. وبالصدفة، التقى بإمام في جنيف يدعى محمود بوزوز. "ساعدني على تأسيس المكتبة، خصوصاً أن علاقتي بالثقافة العربية حتى ذلك الوقت كانت ضعيفة. لم يعمد إلى اختيار الكتب الدينية فقط، بل كل أنواع الكتب. كان منفتحاً جداً".
ويرى آلان أنّ أزمة الشباب الأوروبي المسلم الذي ينتمي إلى تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" وغيره من التنظيمات المتطرفة، هي البحث عن الهوية وليس أي شيء آخر. يضيف: "ليس للأمر علاقة بالدين أو السياسة. إنه بحث عن الهوية. لربّما كنّا محظوظين في أيامنا، لأن التيارات الناشطة كانت يسارية. لكنّ هناك عاملا آخر، وهو أن أوروبا في السبعينيات كانت منتعشة اقتصادياً، وكان الحصول على فرصة عمل أمراً سهلاً. كنا نعمل لأشهر عدة، نجمع المال ونذهب في رحلة طويلة. الأمور اليوم أصعب للغاية، حتى لغير المهاجرين".
بعد الموت
مرّت مكتبة "زيتونة" بمراحل عدّة منذ تأسيسها. يقول آلان إن المرحلة الأهم كانت "إقبال الطبقة الأرستقراطية الخليجيّة. ثم كانت مرحلة بيع أشرطة الفيديو، خصوصاً للأسر العربية في جنيف، كالأفلام المصريّة وغيرها، ثم مرحلة الكتب الدينية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول". يضيف: "بعد أحداث سبتمبر، بدأت مرحلة أخرى. كان هناك إقبال على الكتب الدينية. حينها، تعرفت على الفقه الإسلامي، وصحيح البخاري ومسلم والإمام النووي، لكن يبدو أنها انتهت. منذ أربع سنوات، لم نعد نبيع غير الروايات وكتب الطهي والأبراج".
يحلم آلان بأن تستمرّ المكتبة حتّى بعد وفاته. ورغم الظروف الصعبة التي مرّ بها قبل ثلاث سنوات، بسبب الخسارات المتلاحقة، سعى جاهداً إلى الحفاظ على الأنشطة التي تنظّمها المكتبة، على غرار معارض الفنانين العرب، ومشاركة المكتبة في معرض جنيف للكتاب، إضافة إلى بعض الحفلات الموسيقية للفنانين العرب، والشباب منهم.
يقول آلان: "قبل ثلاث سنوات، وبعدما تراكمت علي الديون إثر إصداري ملحق لومونود ديبلوماتيك بالعربية، وبعدما يئست من الحصول على أي دعم عربي للاستمرار، اضطررت إلى تحويل المكتبة إلى معهد للثقافات العربية والمتوسطية، كي أستطيع الحصول على دعم من المؤسسات السويسرية". يضيف: "المشكلة في الدعم الذي قد تقدمه أي مؤسسة عربية هي شروطها الكثيرة. يريدون السيطرة على كل شيء، حتى نوعية الكتب المعروضة للبيع. أحلم بأن يستمر معهد الثقافات العربية والمتوسطية حتى بعد وفاتي، وأعمل ما في وسعي كي يبقى هذا المكان مركزاً ثقافياً عربياً". يتابع: "نشاطاتنا، رغم كونها محدودة، لكنها لا تقل أهميّة عن معهد العالم العربي في باريس. حتى الآن، ليس هناك دعم عربي حقيقي. تمكن زيادة نشاطات المعهد ليتحول إلى سفارة عربية، تعيد تقديم الثقافة العربية كما تستحق، خصوصاً بعد الخراب الكبير الذي لحق بثقافتنا إثر الأحداث الأخيرة".
ولا ينسى آلان إخبارنا عن سبب اختيار اسم زيتونة للمكتبة. يقول: "في البداية، كانت الزيتونة رمزاً لفلسطين ورمزاً للعيش بسلام. بعدما تقدّمت في العمر، عرفت أنني لن أستطيع من جنيف تغيير شيء في العالم العربي، وأنني سأبقى خليطاً بين الغرب والشرق. قرأت في سورة النور في القرآن: "يُوقَدُ مِن شَجرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ". وكانت مكتبة "زيتونة".