يبدو أنّه ما من حلّ نهائي أو واضح لمشكلة "المستوطنين" في السعودية. هؤلاء الذين قدموا إلى البلاد منذ وقت طويل، ولدوا وعاشوا فيها. مع ذلك، لا يملك كثيرون أوراقاً ثبوتية. وتخشى البلاد أن تجبر على تجنيسهم.
حين قرّر مجلس الشورى السعودي مناقشة قضية الهجرة الاستيطانية غير الشرعيّة (البدون)، فإنّه بذلك أزال الغطاء عن قضيّة شائكة في البلاد، تمتد لأكثر من سبعين عاماً، وقد بات علاجها صعباً. ويحاول المجلس إنهاء وجود أكثر من خمسة ملايين أجنبي استوطنوا البلاد بطريقة مخالفة قبل سبعة عقود. لكن تكمن المشكلة في أنّ غالبيّة هؤلاء ولدو وعاشوا في السعودية، وباتوا لا يعرفون بلداً غيرها، على عكس العمالة غير الشرعية التي نجحت الدولة في السيطرة عليها من خلال حملة أمنية امتدت على مدى ثلاثة أعوام. إلّا أن المهاجرين المستوطنين تغلغلوا في البلاد، إلى درجة أن أحياء كاملة في مكة وجدة والرياض والدمام حملت أسماءهم، مثل حارة البروماوية في مكة المكرمة، والهنداوية والكرنتينا في جدّة.
ويؤكّد عضو المجلس الذي تقدم بمشروع القانون صدقة فاضل أنّ هناك من يأتي إلى السعودية ليس بهدف الزيارة أو السياحة الدينية أو العمل النظامي، بل الاستيطان الدائم والإقامة. يضيف أن جزءاً كبيراً من هؤلاء "نجح في البقاء لعقود في السعودية وتزاوج وتكاثر بشكل غريب، وبات هؤلاء يحاولون فرض أنفسهم في هذه البلاد من خلال التسلل وكسر القوانين والتخفّي".
ويشدّد فاضل على أنّ السعوديّة أصبحت هدفاً لهجرة استيطانية واسعة وغير مشروعة، مصدرها أفريقيا وآسيا، وبات المهاجرون يفضّلون البقاء فيها.
من جهة أخرى، فإن الوضع يوشك أن يصير خارج السيطرة، لأنّ أعداد هذه الجاليات يتضاعف بشكل مستمر. ويبدي أعضاء في المجلس تخوّفهم من أن السعودية قد تقع تحت ضغط دولي لتجنيسهم، وبالتالي حصولهم على حقوق المواطنين السعوديين، الأمر الذي يثير استغراب الناشط الحقوقي فهد الزيدان. الأخير يطالب بحلول أكثر فعاليّة للتعامل مع هذه الجاليات. يقول لـ "العربي الجديد": "نحن لا نتحدّث عن بضعة آلاف بل عن ملايين البشر الذين استوطنوا السعودية منذ عشرات السنين. ويستحقّ كثيرون الجنسيّة لأنهم ولدوا على هذه الأرض وتزوجوا وأنجبوا فيها".
ويقسّم الزيدان المهاجرين لأقسام عدّة بحسب دولهم الأصلية. هناك الجاويون القادمون من إندونيسيا وشرق آسيا، والبرماويّون القادمون من بورما، والأفارقة القادمون من أفريقيا، والأحباش القادمون من أثيوبيا، واليمنيون، إضافة إلى البدو الخليجيّين ويطلق عليهم اسم البدون، ويحظون بتعاطف شعبي.
البدون
ينقسم البدون في السعوديّة إلى ثلاثة أقسام، أهمّها أبناء القبائل النازحة وهم بدو رحّل كانوا يتنقلون بين دول الحدود في شمال وجنوب السعودية، والجاليات الإسلامية من آسيا التي استوطنت مكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف مثل البلوش والبخارية والأفغان والبرماوية والإندونيسيّة، والثالثة هي الجاليات العربية والأفريقية.
وعلى عكس البدون الذين ينتسبون لقبائل الجزيرة العربية، ولا يملكون جنسية بسبب تنقلهم من دولة خليجية إلى أخرى، فإنّ بقيّة البدون من آسيويين وأفارقة ينتمون إلى دول أخرى، لكنّهم أخفوا وثائقهم الرسمية خشية ترحيلهم.
ويؤكّد المؤرّخ عبد العريز السليمان أنّ تنامي البدون في السعودية كان مصحوباً بظروف اجتماعية وإنسانية خاصة. ويقول لـ "العربي الجديد": "غالبيّتهم قدموا منذ أربعينيات القرن الماضي. هؤلاء استوطنوا مكّة المكرمة من خلال رحلات الحج، طمعاّ في القرب من بيت الله الحرام والتجارة. في ذلك الوقت، لم يكن هناك تشديد على الهجرة، وكان كل من يصل إلى البلاد قادراً على البقاء فيها من دون قيود، فتكاثروا إلى درجة أنّهم باتو أكثر من السعوديّين في مكّة وجدة".
ويُطلق أهالي مكّة اسم "الجاوة" على كلّ من تعود جذوره الأصليّة إلى دول شرق آسيا المسلمة، سواء إندونيسيا أو ماليزيا أو تايلاند، نسبة إلى جزيرة جاوة الإندونيسيّة. ويقول المؤرّخون إنّ الجاوة هي إحدى أكبر الجاليات التي عاشت واستوطنت في مكّة المكرمة منذ عشرينيات القرن الماضي. ومع مرور الوقت، أصبح كثيرون من سكان مكة المكرمة، وحصل عدد كبير منهم على الجنسية السعودية. في المقابل، ما زال آخرون يقيمون فيها بطريقة غير نظامية، خصوصاً أن كثيرين من تجار جاوة وأغنيائها، كانوا يشترون منازل كبيرة ويتركونها وقفاً لمواطنيهم الفقراء.
ويقول محمد سلامة، أحد التجار الجاويين، إنّه لا يمكن فصل الجاويين عن تاريخ مكة لأنّهم جزء رئيسي منه. يضيف: "تعود أصول معظم الجاويّين في مكّة إلى عشرينيات القرن الماضي، وهناك أجيال ولدت وعاشت وأنجبت وماتت على هذه الأرض. يضيف: "يمتهن الجاويّون مهناً حرفيّة، مثل الخياطة والطب الشعبي وإصلاح السيارات، ويعمل كثيرون سائقين، وهم مسالمون في الغالب".
جالية أكثر فعالية
تعدّ البرماوية الجالية الأكثر فعالية في البلاد، وقد قدم أفرادها من بورما. ومع أنّ عدد الجاويين يزيد عن المليون ونصف المليون نسمة كتقديرات غير رسمية، إلّا أنّ نشاط البرماويين أكثر وضوحاً، خصوصاً في جدّة (غرب السعودية). وبحسب الوثائق التاريخية، سكن البرماويون مكة المكرمة والمدينة المنورة، ومنهم من انتقل إلى جدة. وعلى عكس الجاليات الأخرى التي جاءت إلى السعودية طلباً للعمل، فإنّ البرماويّين هربوا من ديارهم خوفاً من القتل على يد البوذيين. ويكشف شيخ الجالية البرماوية في السعودية أبو الشمع عبد المجيد أن عدد الجالية البرماوية يقدر بنحو ربع مليون نسمة. ويقول: "نعيش على أرض السعودية منذ نحو 80 عاماً، بعدما جاء إليها أجدادنا من مسلمي الروهينغيا هرباً ممّا كانوا يعانون منه من ظلم وتعذيب على يد الحكومة والجماعات المتطرفة هناك، والتي كانت تنكل بالمسلمين". يضيف: "ساهمت الإقامات التي منحت لأبناء الجالية في حل العديد من المشاكل التي كانت تواجههم، وسهلت لهم سبل التنقل والإقامة. وبسببها، يمكن لأبنائنا الدراسة في المدارس العامة، منذ المرحلة الابتدائية وحتى المرحلة الثانوية".
ويُعدّ البرماويّون من أكثر الجاليات حظّاً في السعوديّة. ورغم أن كثيرين نجحوا في الحصول على الجنسية السعودية، لا يملك آخرون أية وثائق. ويقول عبد العزيز السليمان: "هؤلاء تعمّدوا إتلاف وثائقهم الرسمية حتّى لا يرحّلوا إلى بلادهم". يضيف: "في عام 2000، عدّل وضع كثيرين من البرماوية، وصدرت قرارات بمنحهم إقامات رسمية من دون جوازات، وقد جدّدت إقامتهم في عام 2008. كما أنّ الجزء الأكبر منهم حصل على بطاقات تعريف للبرماويين التي تسمى بالبطاقات البيضاء". ويشدّد السليمان على أنّ مشكلة البرماويين تكمن في أن وضعهم المعيشي دون المتوسّط، وغالبيّهم من الفقراء، وهم يعلمون في مهن بسيطة مثل السباكة والنجارة والكهرباء والبناء.
مشاكل أخرى
على عكس الجاليات الآسيويّة، تثير الجاليات الأفريقية مشاكل أكبر. وبحسب تقارير حكومية، يبلغ عدد الجالية الأفريقية في غرب السعودية أكثر من 700 ألف، غالبيّتهم مجهولو الهوية، ومنهم من يرتكبون الجرائم، خصوصاً السرقة والتسوّل. هؤلاء يستوطنون أحياء كاملة مثل المنصور في مكة المكرمة والكرنتينا في جدة. ويؤكّد الباحث الإسلامي أحمد العسيري علي أنّ أفراد الجالية كوّنوا خلال عشرات السنين تجمّعات وتكتّلات في كثير من المواقع الجغرافية الصغيرة التي توصف بالعشوائيّة، وللأسف هم يمتهنون مهناً بسيطة مثل غسل السيارات، والبناء، الأمر الذي جعلهم تحت خطّ الفقر. يقول لـ "العربي الجديد" إنّ "الجاليات الأفريقية المخالفة لنظام الإقامة تقلق الدولة نظراً لارتفاع نسبة البطالة والفقر بين أفرادها، في وقت تعتبر من أكثر الجاليات تكاثراً. لذلك، يلجأ غالبيّتهم إلى امتهان التسوّل لتأمين المال، ناهيك عن ارتكابهم مخالفات قانونيّة".
ويؤكّد الأمين العام لجمعيّة مراكز الأحياء في مكة المكرمة، يحيى زمزمي، إنّ أبرز المشاكل التي تعاني منها الجاليات الأفريقية في السعودية هي انتشار الجهل والفقر، ما يدفعهم إلى البحث عن وسائل غير شرعية للحصول على المال. ويلفت إلى أن جمعيّته نظّمت برامج عدّة لأبناء هذه الجاليات لتوعيتهم حول أخطار الجرائم، مشدّداً على أنّ "الحل يكمن في التوعية لا الملاحقة".