تنتشر مظاهر البداوة في موريتانيا بشكل يمنع الفصل بينها وبين التجمعات الحضرية المحيطة بها. تزاحم الخيم والأعراش التي يقيمها البدو الآتون حديثاً المنازل حتى في أرقى الأحياء، خصوصاً في العاصمة نواكشوط.
في المدن الموريتانية من العادي رؤية مساكن عشوائية إلى جانب الفيلات الفخمة. هو أحد مظاهر البداوة التي تتسلل إلى المدن وتقيم فيها جنباً إلى جنب مع مظاهر التمدن والحداثة. تنتشر حظائر المواشي بشكل لافت في الأحياء السكنية، بالإضافة الى العربات التي تجرها الأحصنة والحمير وتستعمل كوسائل نقل، ما يشوه المنظر العام ويلوث المدن. كذلك، تتجول قطعان الماعز والغنم في كلّ مكان وترعى من عشب المتنفسات والساحات العمومية أو من أكوام النفايات وسط المدن، بالترافق مع انتشار حيوانات سائبة في الشوارع ما يعيق حركة السير.
ما زالت المدن الموريتانية وعلى رأسها العاصمة نواكشوط تضم أعداداً كبيرة من قطعان الماشية التي تُربّى من أجل ألبانها ولحومها. وتحتفظ الأسر الثرية بالإبل والأبقار في المنازل الثانوية بالقرب من مقر السكن الرسمي للاستفادة من اللبن الطازج ولنحرها في المناسبات الاجتماعية والتباهي بها في رحلات الاستجمام والراحة في أرياف المدن. من جهتهم، يستفيد محدودو الدخل من تربية الماعز والغنم في منازلهم، في بيع ألبانها والاستفادة من ارتفاع اسعار الأضاحي في الأعياد.
ليس انتشار الماشية في المدن ومواصلة سكانها الأنشطة الرعوية ما يؤكد انتشار مظاهر البداوة في الوسط الحضري، بل هناك أيضاً عادات استهلاكية ونمط عيش وممارسات اجتماعية تشير إلى أنّ التحضر المتسارع للبدو الذين نزحوا نحو المدن بعد تدهور أوضاع البادية من جراء الجفاف وتفاقم الفقر، لم ينجح في تحويلهم إلى سكان مدن حقيقيين، بل ما زال أسلوب الحياة في البادية مؤثراً في بيئة المدينة بشكل يتيح لسكانها مرافقة حيواناتهم ونصب الخيام والإقامة فيها.
كذلك، ما زال بعض البدو الموريتانيين يتجولون في أطراف الساحل الأفريقي وعلى امتداد الحدود بين موريتانيا ومالي والسنغال، يتنقلون بمواشيهم وخيمهم ولا يرتبطون بسكن ثابت أو يعترفون بالحدود الدولية التي يقطعونها.
يعتبر المتخصصون في علم الاجتماع أنّ البداوة حافظت على استمرارها في موريتانيا مدة طويلة من الزمن بسبب العزلة، وقلة تفاعل المجتمع الموريتاني مع المجتمعات الأخرى، وبسبب ارتباط الناس بنظام ثابت من الأعراف والتقاليد.
تختلف ظاهرة البداوة في انتشارها بين المدن الموريتانية اختلافاً كبيراً، فهي أكثر انتشاراً في الشرق والوسط مما هي عليه في الغرب والشمال. وبالرغم من اختلاف المدن في درجة تأثرها بالبداوة إلا أنّ أغلبها ما زال مترنحاً بين البداوة والتحضر. يقول الباحث الاجتماعي أحمدو ولد الزين إنّ علامات بداوة المدن تبدو واضحة وجلية لكلّ من يزور موريتانيا، ففي العاصمة نواكشوط ما زالت هناك متابعة للأنشطة الرعوية، كما تنتشر في الشوارع حيوانات سائبة وعربات تجرها الدواب. أما العقليات والأنماط البدوية فتسود في المدن، ومنها ما يعيق تطور المجتمع الذي يحتاج إلى تجاوزها والتخلي عنها.
يضيف ولد الزين أنّ نواكشوط التي تضم أكثر من ربع سكان موريتانيا تعاني من عدم التخطيط ومن العشوائية في البناء سواء في أماكن السكن أو العمل أو الراحة وحتى الساحات العمومية. ويشير إلى أنّ تأثيرات الحركة العمرانية السريعة التي عرفتها العاصمة أدت الى اتساع المدينة أفقياً وعدم تخطيط الأحياء وغياب البنى التحتية خصوصاً قنوات الصرف الصحي. يتابع أنّ "الجفاف وتأثر الزراعة والتنمية الحيوانية به بالإضافة إلى الأوضاع السياسية في المنطقة منتصف السبعينيات من القرن الماضي كلّها عوامل زادت من حركة هجرة البدو نحو نواكشوط، لكن من دون اقتناع منهم أنّهم أصبحوا من سكان المدن فاستمر الطابع البدوي لأكثرية سكان المدن، وأدار البدو ظهورهم لحياة المدينة".
يشير ولد الزين إلى أنّ مظاهر البداوة في المجال الحضري كثيرة منها انتشار العادات البدوية كزواج القاصرات والخضوع لسلطة كبير العائلة واتكال عدة أسر على معيل واحد وطقوس الضيافة وغير ذلك. كذلك، يتأثر النمط العمراني للمدن بخيام البدو التي تنتشر في فناءات جميع المنازل طلباً للراحة والتهوية. وقد انتشرت الفوضى العمرانية وباتت الاجتهادات الشخصية تتغلب على التخطيط والتصميم والبناء. ولم تتمكن الدولة من مواكبة هذا النمو السكاني بما يتطلبه من مرافق وتجهيزات، ما أدى إلى انتشار مشاكل السكن العشوائي وأحياء الصفيح والتلوث واحتلال الملك العام.
في المقابل، يلفت ولد الزين إلى أنّ تأثير البداوة على المدن لم يكن سيئاً بالكامل، فهناك قيم إيجابية ينشرها البدو في المدن، منها إكرام الضيف وإغاثة الملهوف ومساعدة المحتاج واحترام الجار وغيرها.