وعمد متظاهرون، اليوم، إلى الاعتصام داخل آبار الفحم الموجودة في ضواحي جرادة، احتجاجاً على ما يعتبرونه تهميشا للمنطقة، كما ألقى أربعة منهم أنفسهم داخل الآبار بدون وسائل الإنقاذ، فيما حاولت عناصر الإسعاف ورجال "القوات العمومية" انتشال المعتصمين داخل الآبار، خشية أن يقع لهم مكروه.
اعتصامات واتهامات
وواكب اعتصام زهاء خمسين شخصا داخل آبار الفحم العشوائية الموجودة في منطقة "فيلاج يوسف"، وقفات احتجاجية متفرقة، تحدّث فيها نشطاء عن رفضهم لما سموه المقاربة الأمنية لحل مشاكل "عاصمة الفحم"، كما طالبوا بحلول اقتصادية ناجعة بديلة عن مناجم الفحم التي تم إغلاقها رسميا منذ سنة 1999 بعد استنفاد طاقتها.
مصادر أمنية تحدثت لـ"العربي الجديد"، قالت إن عددا من المتظاهرين عمدوا إلى رشق القوات العمومية بالحجارة، في محاولة لثنيهم عن فضّ الاعتصام غير القانوني، وأيضا من أجل منع رجال الإسعاف من إخراج المعتصمين من آبار الفحم العشوائية لإنقاذ حياتهم، وفقا لرواية المصدر الأمني.
وتضاربت الأخبار بخصوص حصيلة المواجهات بين المحتجين وقوات الأمن، والتي تراوحت وفق إحصاءات غير رسمية بين 50 و80 مصابا، بعضهم من قوات الأمن، وأكد شباب "حراك جرادة" أن سيدة في العقد السادس أصيبت إصابات بليغة جراء وقوعها في أحد آبار الفحم بمنطقة فيلاج يوسف، خلال هروبها رفقة متظاهرين من قوات الأمن التي كانت بصدد تفريق التجمع البشري باعتبار أنه لم ينل ترخيصا من السلطات.
وفيما اتهمت وزارة الداخلية في بلاغها "جهات سياسية" باستغلال مطالب سكان جرادة والركوب عليها، من خلال تحريضهم على مواصلة الاحتجاج من دون ضوابط قانونية، أكد متزعمو الوقفات الاحتجاجية في مداخلاتهم أن "الاحتجاجات ظلت سلمية منذ انطلاقتها قبل أسابيع، وأنها بعيدة عن أية أجندات حزبية أو سياسية، بقدر ما هي مطالب اجتماعية واقتصادية مشروعة وحتمية".
من جهتها أفادت السلطات المحلية لمدينة جرادة المغربية بأن الاحتجاجات أسفرت عن تسجيل إصابات في صفوف القوات الأمنية، بعضها بليغة، فضلا عن إحراق المتظاهرين لخمس سيارات تابعة للقوات العمومية وإلحاق أضرار مادية جسيمة بمجموعة من العربات والمعدات المستخدمة من قبل هذه القوات.
وأضافت في بلاغ لها اليوم،"عمدت بعض العناصر الملثمة، في خطوة تصعيدية، إلى استفزاز القوات العمومية ومهاجمتها بالحجارة، مما اضطرت معه هذه القوات، بتنسيق مع النيابة العامة المختصة، إلى التدخل لفض هذا الشكل الاحتجاجي".
وتوزعت مواقف نشطاء وسكان مدينة جرادة بشأن مواصلة الاحتجاج من دون انتظار تنفيذ الحكومة وعودها، وقال أحمد قرفاوي، ناشط جمعوي، لـ"العربي الجديد" إنه يرفض الاستمرار في الاحتجاجات والدعوات التجييشية للتظاهر، بشكل أفسد مظاهر الحياة في جرادة، أكثر مما هي عليه، وأضر بكثير من مصالح السكان، وخلق أجواء من التوتر والاحتقان المبالغ فيه" وفق تعبيره.
وفي المقابل، ذكر ناشط آخر يؤيد مواصلة الاحتجاجات، لـ"العربي الجديد"، أنه ما ضاع حق وراءه مطالب، وأن الضغط على المسؤولين من خلال تنظيم أشكال احتجاجية إبداعية وسلمية وحضارية، هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق المطالب المشروعة التي لا تخرج عن رفع التهميش وتنمية جرادة وإيجاد بدائل للشباب العاطل عن العمل.
وفيما التزمت أحزاب وهيئات سياسية الصمت حيال بلاغ وزارة الداخلية المغربية بشأن حظر التظاهرات غير المرخص لها في إقليم جرادة، اعتبرت منظمات حقوقية أن الحكومة مسؤولة بكل مباشر عن مآلات الوضع في جرادة، وأنه يتعين عليها التعجيل بتنزيل وعودها على أرض الواقع، لطمأنة السكان والشباب في المنطقة.
وفي هذا الصدد، يورد مدير المركز المغربي لحقوق الإنسان، عبد الإله الخضري، أن "الاحتجاجات أو ما يصطلح عليه قانونا التجمعات العمومية والتجمهر السلمي، تتعاطى معها وزارة الداخلية بناء على منطوق الظهير الشريف رقم 1.58.377، الصادر في 15 نوفمبر 1958، والذي عدل مرتين كان آخرها عام 2002، حيث ينص على ضرورة الحصول على تصريح سابق لجميع المظاهرات بالطرق العمومية، كما يمنع كل تجمهر مسلح، وكل تجمهر غير مسلح، من شأنه أن يخلّ بالأمن العمومي".
واعتبر الخضري، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أن هذا القانون يحتاج إلى تحيين حتى يتماشى مع روح الدستور الجديد، الذي يضمن في فصله الـ29 حق التجمهر السلمي، كما ينص الفصل الـ22 منه على "عدم جواز المسّ بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، في أي ظرف، ومن قبل أي جهة كانت، خاصة أو عامة".
ولفت الناشط ذاته إلى أن "القرار الصادر عن وزارة الداخلية يرتكز على قانون متجاوز يتعارض مع روح الدستور، مادام الأمر يهم احتجاجات سلمية، الغرض منها التنديد بالواقع المعيشي المزري الذي تعيشه مدينة جرادة"، داعيا البرلمان والمُشرع المغربي إلى العمل على تحيين هذا القانون.
حوكمة وعريضة السكان
وانتقد المركز الحقوقي ما سماه رفض الحكومة التجاوب مع مطالب السكان، وهي مطالب في غالبيتها مشروعة وقابلة للنقاش، فيما تشهد الأزمة في جرادة استقطابا سياسيا ينذر بتعقيدها أكثر فأكثر، مردفا أن وزارة الداخلية تتدخل لمنع الاحتجاجات، كما جاء في قرارها الأخير، فيما تتحرك النيابة العامة لاعتقال متزعمي الحراك الشعبي في جرادة.
واسترسل الخضري أن "هذا السلوك يفتقد إلى الحوكمة الأمنية وحتى القضائية، كما يعكس حالة التخبط في تدبير هذا الملف الشائك، مما تبدو معه الحلول ضيقة تهدف مباشرة إلى المقاربة الأمنية"، مناشدا العديد من فعاليات الحراك من أجل سلك آليات الديمقراطية التشاركية، التي باتت تتيح فرص قانونية مؤسساتية ذات فعالية ونجاعة كبيرة في حالة استغلالهما بشكل سليم".
وقدم المتحدث أمثلة على ذلك، من قبيل إنشاء عريضة تضم مطالب السكان بخصوص السياسات العمومية المتبعة في المنطقة، والتي يمكن تسليمها إلى رئيس الحكومة مباشرة، استنادا إلى المادة 9 من القانون التنظيمي رقم 44ـ14، بما سيلزم رئيس الحكومة سياسيا وأخلاقيا الجلوس على طاولة الحوار مع ممثلي المجتمع المدني في جرادة.
وأكمل الحقوقي أن "هناك من يرفض مثل هذا المنهج الديمقراطي التشاركي (البديل)، كما أن هناك اختلالا ما يطبع سياسة تدبير الأزمات، حيث تنتعش فيها النوايا السيئة، أعداء الديمقراطية والحرية، وتضيع آمال المقهورين، الذين دفعتهم المعاناة إلى الاحتجاج، وليس شيئا آخر".
الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بدورها، دعت الحكومة إلى تحقيق مطالب سكان جرادة الثلاثة، وهي توفير بديل اقتصادي كفيل بتحقيق طموحات السكان في العيش الكريم، والإعفاء من فواتير الكهرباء والماء، ثم محاسبة المسؤولين عن الوضع المتردي الذي وصلت إليه المدينة.
وطالبت الجمعية الحقوقية بإطلاق سراح المعتقلين على خلفية الاحتجاجات في جرادة، وتصفية الأجواء العامة في المدينة، وعدم تغليب الهاجس الأمني، تهدئة للأوضاع، معتبرة أن جرادة مدينة منكوبة، لكونها فقدت مناجم الفحم التي لم تكن تشكل القلب النابض للمدينة فحسب، بل للجهة الشرقية بكاملها، وللاقتصاد الوطني عموما، ومناصب الشغل التي كانت توفرها، وما تخلقه في المدينة ونواحيها من رواج تجاري واقتصادي".