في حين يجهل مسلمون سبق واستقروا في فرنسا وجود مساحات خاصة لهم في مقابر البلاد، فإنّ قلّة مسلمة تعمد إلى دفن من يقضي من أفراد العائلة أو المقرّبين في مقابر فرنسية
لا يعرف كثيرون من مسلمي فرنسا أنّ ثمّة مقابر فرنسية على امتداد البلاد تتضمن أجنحة خاصة يستطيع المسلمون دفن أمواتهم فيها. بالنسبة إلى عدد كبير منهم، يتعيّن على أهل المسلم الميت نقل جثمانه إلى بلده الأم حتى يرتاح بين أهله. وهذا الأمر يبيّن جهلاً واضحاً، مع تسجيل استثناءات. والأمر لا يقتصر على تلك الأجنحة، بل ثمّة مقبرة إسلامية في ضاحية باريس، في ناحية بوبينيي، وهي تُعَدّ الوحيدة في فرنسا. وكانت الدولة الفرنسية قد قدّمتها في عام 1937 للمسلمين تقديراً منها لمشارك جنود مسلمين في جيوشها ومعاركها الكولونيالية، تماماً مثلما منحتهم في السابق مسجد باريس الكبير في قلب العاصمة والذي تم تدشينه في عام 1926.
عندما يلفظ أحدهم أنفاسه الأخيرة، يُنقل جثمانه في سيارة إسعاف إلى مسجد من مساجد البلاد حيث تُقام الصلاة عليه، قبل تسفيره إلى أرض الأجداد. هذا هو المعتاد، وهذا ما يُفترض أن يكون بحسب الغالبية. وبحسم يقول الشيخ سليم وهو تونسي في السبعين من عمره: "ذكرت في وصيتي أنّني سوف أدفن في مقبرة قريتي في تونس". الموقف نفسه تشدد عليه الحاجة آمنة، وهي مغربية في مثل سنّه ترتاد مسجد مونفرموي في ضاحية باريس ولها أبناء وأحفاد كثيرون: "لن أدفن إلا في مسقط رأسي. ومن شاء زيارة قبري، ما عليه إلا أن يزور بلد الأجداد".
رفض وقبول
بالنسبة إلى المهاجرين الأوائل، أي المتقاعدين حالياً، خصوصاً الذين عاشوا فترات الغربة والهجرة من دون عائلاتهم، فإنّ الرغبة في العودة إلى أوطانهم تشتدّ ولو في نعوش. هؤلاء لا يقبلون مجرّد سماع فكرة دفنهم في فرنسا. بعض منهم سمع عن أجنحة للمسلمين في مقابر فرنسية، إلا أنّ قلّة قصدتها في يوم.
ويقدّم هؤلاء الراغبون في رفقة آبائهم وأجدادهم وذويهم عند الموت، مبررات كثيرة لا يقبلها عدد من الأئمة والشيوخ الذين التقت "العربي الجديد" بهم. ويقول الإمام امحمد إنّ "الموت والدفن من الغيب الذي يتوجب علينا أن نؤمن به"، سائلاً: "ثمّ ماذا لو أنّ الموت لم يكن طبيعياً وتعذّر تجميع أشلاء الجثة... ألا يتمّ الدفن هنا؟".
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ كثيرين من هؤلاء العجزة الذين ينتظرون رحيلهم وهم يتلقون العلاج والمعاش في فرنسا، أميّون ومن دون ثقافة دينية. سليمان على سبيل المثال عجوز جزائري يقيم في فرنسا منذ سنة 1945، يفسّر الأمر بطريقته فيقول: "طوال حياتي أعيش الغربة في فرنسا... غربة عن الأهل والوطن. ولا أريد أن أدفن في فرنسا، فأعرف غربة الموت". يضيف: "قيل لنا إنّ الأرواح تستأنس ببعضها البعض، وأحبّ أن تلتقي روحي عند موتي بأرواح كثيرين من عائلتي وأصحابي". إلى ذلك، لا يتردد البعض حين يطمئنون إليك، في التصريح بأنّه "لا يجوز دفن المسلم في أرض الكفر". وحين تسألهم: "وكيف سمحتم لأنفسكم بالعمل والإقامة لعقود طويلة في أرض الكفر؟"، لا يجيبون. ويحافظون على صمتهم حين تضيف: "ولكنكم تجدون مساجد تصلّون فيها، وتذبحون كذلك أضاحيكم، ولا أحد يمنعكم من أداء شعائركم".
ولا يقتصر الأمر على الشيوخ المتقاعدين، بل إنّ الإقبال على تسفير الجثامين إلى أرض الآباء والأجداد يُسجّل لدى شرائح عمرية مختلفة ولا يقتصر على مرتادي المساجد. الأمر يكاد أن يشبه طقوس رمضان. فكثيرون يحرصون على صوم هذا الشهر، حتى ولو أنهم لا يصلّون طول السنة ولا يرتادون المساجد. جواد مثلاً، شاب عشريني، يقول إنّه مسلم ولا يخفي أنّه لا يصلي. حين نسأله عن مصير جثمانه بعد الموت، يجيب تلقائياً: "لا يمكن أن أدفَن هنا. الأمر محسوم".
أقلية إلى تزايد
إلى جانب هؤلاء الذين حسموا أمرهم في مسألة العودة إلى بلدانهم الأصلية في النعوش، ثمّة عدد متزايد من مسلمي فرنسا، خصوصاً من الأجيال الشابة، قرّر دفن موتاه في فرنسا. ولا شكّ أنّ هذا الرقم سوف يزداد مع الأيام. ويبرّر هؤلاء الأمر بأنّهم فرنسيون ولم يعرفوا بلداً غير فرنسا. فلماذا لا يُدفنون في ترابها؟
سمير في الرابعة والعشرين من عمره، من والدَين مغربيَين. يقول: "أنا لم أزر المغرب قطّ. حياتي هنا وعائلتي وأصدقائي، فلماذا أدفن هناك؟". يضيف أنّ "الأمر سوف يكون سريالياً". يُذكر أنّ سمير الذي كان صغيراً عند طلاق والدَيه، كبر مع والدته التي تزوّجت من فرنسي غير مسلم.
وموقف سمير يتشاركه شباب كثيرون لم يزوروا كثيراً أرض أجدادهم والذين يعلنون عن اندماجهم في مجتمعهم الفرنسي. إلى ذلك، نجد الموقف نفسه لدى شخصيات مؤثرة في فرنسا، فالفنان الفكاهي الفرنسي الشهير، ياسين بلعطّار، وهو من أصول مغربية، قال صراحة لصحيفة "لوموند" الفرنسية بتاريخ 30 ديسمبر/ كانون الأول 2017: "لا يمكن أن نعلن أنّنا فرنسيون إذا لم نُدفَن في فرنسا. لأنّ الأمر يعني أنّنا نموت مثلما عشنا: مكترين لا مالكين". ويتحدث كيف أنّه في الثالثة عشرة، وحين توفي أخ له بسبب مرض وقرّر الوالد دفنه في المغرب، صاح: "لن أستقلّ الطائرة كل أسبوع لزيارة قبر أخي".
اقــرأ أيضاً
تكاليف باهظة
في سياق متصل، يبدو أنّ أمر نقل الجثمان إلى بلد الأجداد ليس سهلاً من الناحية المادية. فإمّا أن يكون الميت قد فكّر في تأمين ما في أثناء حياته، أو أن تعمد العائلة في حال وجودها إلى توفير تكاليف نقله، أو أن يُصار اللجوء إلى تبرّعات في المساجد، من أجل التعجيل بنقل جثمانه من أجل دفنه. يُذكر أنّ المبلغ يقترب من ثلاثة آلاف يورو.
أمّا بالنسبة إلى الدفن في فرنسا، فبعد تجاوز الحاجز النفسي والعاطفي، تكمن الصعوبة في قلة المقابر الفرنسية التي تضمّ أجنحة أو "مربّعات إسلامية" مثلما يطلق عليها بالفرنسية. فتلك المربّعات الإسلامية لا تتجاوز السبعين. وعندما تخلو مدينة أو بلدة فرنسية من تلك المربعات، فإنّ العائلات تضطر إلى دفن أمواتها في أماكن بعيدة. ثمّ تأتي التكاليف باهظة بالنسبة إلى كثيرين يعيشون بمعاشات تقاعد هزيلة. ويتوجّب على العائلة توفير تكلفة الدفن التي تتراوح ما بين 1400 يورو و6600 يورو، مع مراعاة المقبرة وشهرتها وقربها أو بعدها، وأسماء المشاهير المدفونين فيها، وأمور لوجستية.
بالتالي، فإنّ عملية شراء القبور ليست بالأمر السهل. ولا يتعلق الأمر بعملية شراء حقيقية، بل هو عبارة عن إيجار قد يطول، 30 سنة قابلة للتجديد، أو قد يقصر، ما بين 10 و15 سنة. وعند انتهاء تلك المدة، تُنصح العائلة أو ما تبقى منها بتجديد عملية الإيجار، وإلاّ فإنّ للسلطات الفرنسية المختصة الحق والصلاحية لتأجير القبر لعائلة أخرى، مع ما يتطلبه الأمر من تخلص من العظام عن طريق الإحراق. وهو ما يسبّب قلقاً وغضباً لدى مسلمي فرنسا. بالنسبة إلى العجوز أحمد، فإنّها "عملية عذاب رهيبة بمجرّد التفكير فيها". ويوضح أنّه ضمن دفنه في المقبرة نفسها التي دُفن فيها أبوه في أرض الأجداد، بفعل التأمين على نقل جثمانه الذي سجّله قبل عقود مع أحد المصارف المغربية. والإحراق بالنسبة إلى الحاجة حليمة "فكرة لا تطاق"، ولا تخفي فزعها الكبير من احتمال عدم قدرة ورثتها أو انعدام رغبتهم في تجديد إيجار قبرها إذا دُفنت في فرنسا، وهو ما يجعلها ترفض فكرة بقاء جثمانها في فرنسا بطريقة لا تقبل الجدال.
تجدر الإشارة إلى أنّ التخلص من القبور بعد انتهاء عقود إيجارها لا يتعلّق سوى بالناس البسطاء، إذ إنّ السلطات ما زالت تحافظ على قبر مالك أوسيكين، الطالب الجزائري الذي قتلته الشرطة الفرنسية في إضرابات 1986 الطالبية والذي دفن في مقبرة بير لاشيز الباريسية الشهيرة، وكذلك على قبر الشرطي أحمد لمرابط الذي قتله الإرهابيون الذين هاجموا صحيفة "شارلي إيبدو" ودُفن في المقبرة الإسلامية الوحيدة في فرنسا في ضاحية باريس.
وفي انتظار قرار صريح وواضح من السلطات الفرنسية يضمن عدم التخلص من رفات موتى المسلمين عن طريق الإحراق، من المتوقّع بحسب جعفر المغربي أن "يواصل مسلمو فرنسا بمعظمهم إرسال موتاهم إلى أرض الأجداد، وأن تواصل شركات التأمين حصد أرباح كبيرة". يُذكر أنّه يدفع نحو 40 يورو سنوياً في مقابل تأمين نقل جثمانه.
لا يعرف كثيرون من مسلمي فرنسا أنّ ثمّة مقابر فرنسية على امتداد البلاد تتضمن أجنحة خاصة يستطيع المسلمون دفن أمواتهم فيها. بالنسبة إلى عدد كبير منهم، يتعيّن على أهل المسلم الميت نقل جثمانه إلى بلده الأم حتى يرتاح بين أهله. وهذا الأمر يبيّن جهلاً واضحاً، مع تسجيل استثناءات. والأمر لا يقتصر على تلك الأجنحة، بل ثمّة مقبرة إسلامية في ضاحية باريس، في ناحية بوبينيي، وهي تُعَدّ الوحيدة في فرنسا. وكانت الدولة الفرنسية قد قدّمتها في عام 1937 للمسلمين تقديراً منها لمشارك جنود مسلمين في جيوشها ومعاركها الكولونيالية، تماماً مثلما منحتهم في السابق مسجد باريس الكبير في قلب العاصمة والذي تم تدشينه في عام 1926.
عندما يلفظ أحدهم أنفاسه الأخيرة، يُنقل جثمانه في سيارة إسعاف إلى مسجد من مساجد البلاد حيث تُقام الصلاة عليه، قبل تسفيره إلى أرض الأجداد. هذا هو المعتاد، وهذا ما يُفترض أن يكون بحسب الغالبية. وبحسم يقول الشيخ سليم وهو تونسي في السبعين من عمره: "ذكرت في وصيتي أنّني سوف أدفن في مقبرة قريتي في تونس". الموقف نفسه تشدد عليه الحاجة آمنة، وهي مغربية في مثل سنّه ترتاد مسجد مونفرموي في ضاحية باريس ولها أبناء وأحفاد كثيرون: "لن أدفن إلا في مسقط رأسي. ومن شاء زيارة قبري، ما عليه إلا أن يزور بلد الأجداد".
رفض وقبول
بالنسبة إلى المهاجرين الأوائل، أي المتقاعدين حالياً، خصوصاً الذين عاشوا فترات الغربة والهجرة من دون عائلاتهم، فإنّ الرغبة في العودة إلى أوطانهم تشتدّ ولو في نعوش. هؤلاء لا يقبلون مجرّد سماع فكرة دفنهم في فرنسا. بعض منهم سمع عن أجنحة للمسلمين في مقابر فرنسية، إلا أنّ قلّة قصدتها في يوم.
ويقدّم هؤلاء الراغبون في رفقة آبائهم وأجدادهم وذويهم عند الموت، مبررات كثيرة لا يقبلها عدد من الأئمة والشيوخ الذين التقت "العربي الجديد" بهم. ويقول الإمام امحمد إنّ "الموت والدفن من الغيب الذي يتوجب علينا أن نؤمن به"، سائلاً: "ثمّ ماذا لو أنّ الموت لم يكن طبيعياً وتعذّر تجميع أشلاء الجثة... ألا يتمّ الدفن هنا؟".
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ كثيرين من هؤلاء العجزة الذين ينتظرون رحيلهم وهم يتلقون العلاج والمعاش في فرنسا، أميّون ومن دون ثقافة دينية. سليمان على سبيل المثال عجوز جزائري يقيم في فرنسا منذ سنة 1945، يفسّر الأمر بطريقته فيقول: "طوال حياتي أعيش الغربة في فرنسا... غربة عن الأهل والوطن. ولا أريد أن أدفن في فرنسا، فأعرف غربة الموت". يضيف: "قيل لنا إنّ الأرواح تستأنس ببعضها البعض، وأحبّ أن تلتقي روحي عند موتي بأرواح كثيرين من عائلتي وأصحابي". إلى ذلك، لا يتردد البعض حين يطمئنون إليك، في التصريح بأنّه "لا يجوز دفن المسلم في أرض الكفر". وحين تسألهم: "وكيف سمحتم لأنفسكم بالعمل والإقامة لعقود طويلة في أرض الكفر؟"، لا يجيبون. ويحافظون على صمتهم حين تضيف: "ولكنكم تجدون مساجد تصلّون فيها، وتذبحون كذلك أضاحيكم، ولا أحد يمنعكم من أداء شعائركم".
ولا يقتصر الأمر على الشيوخ المتقاعدين، بل إنّ الإقبال على تسفير الجثامين إلى أرض الآباء والأجداد يُسجّل لدى شرائح عمرية مختلفة ولا يقتصر على مرتادي المساجد. الأمر يكاد أن يشبه طقوس رمضان. فكثيرون يحرصون على صوم هذا الشهر، حتى ولو أنهم لا يصلّون طول السنة ولا يرتادون المساجد. جواد مثلاً، شاب عشريني، يقول إنّه مسلم ولا يخفي أنّه لا يصلي. حين نسأله عن مصير جثمانه بعد الموت، يجيب تلقائياً: "لا يمكن أن أدفَن هنا. الأمر محسوم".
أقلية إلى تزايد
إلى جانب هؤلاء الذين حسموا أمرهم في مسألة العودة إلى بلدانهم الأصلية في النعوش، ثمّة عدد متزايد من مسلمي فرنسا، خصوصاً من الأجيال الشابة، قرّر دفن موتاه في فرنسا. ولا شكّ أنّ هذا الرقم سوف يزداد مع الأيام. ويبرّر هؤلاء الأمر بأنّهم فرنسيون ولم يعرفوا بلداً غير فرنسا. فلماذا لا يُدفنون في ترابها؟
سمير في الرابعة والعشرين من عمره، من والدَين مغربيَين. يقول: "أنا لم أزر المغرب قطّ. حياتي هنا وعائلتي وأصدقائي، فلماذا أدفن هناك؟". يضيف أنّ "الأمر سوف يكون سريالياً". يُذكر أنّ سمير الذي كان صغيراً عند طلاق والدَيه، كبر مع والدته التي تزوّجت من فرنسي غير مسلم.
وموقف سمير يتشاركه شباب كثيرون لم يزوروا كثيراً أرض أجدادهم والذين يعلنون عن اندماجهم في مجتمعهم الفرنسي. إلى ذلك، نجد الموقف نفسه لدى شخصيات مؤثرة في فرنسا، فالفنان الفكاهي الفرنسي الشهير، ياسين بلعطّار، وهو من أصول مغربية، قال صراحة لصحيفة "لوموند" الفرنسية بتاريخ 30 ديسمبر/ كانون الأول 2017: "لا يمكن أن نعلن أنّنا فرنسيون إذا لم نُدفَن في فرنسا. لأنّ الأمر يعني أنّنا نموت مثلما عشنا: مكترين لا مالكين". ويتحدث كيف أنّه في الثالثة عشرة، وحين توفي أخ له بسبب مرض وقرّر الوالد دفنه في المغرب، صاح: "لن أستقلّ الطائرة كل أسبوع لزيارة قبر أخي".
تكاليف باهظة
في سياق متصل، يبدو أنّ أمر نقل الجثمان إلى بلد الأجداد ليس سهلاً من الناحية المادية. فإمّا أن يكون الميت قد فكّر في تأمين ما في أثناء حياته، أو أن تعمد العائلة في حال وجودها إلى توفير تكاليف نقله، أو أن يُصار اللجوء إلى تبرّعات في المساجد، من أجل التعجيل بنقل جثمانه من أجل دفنه. يُذكر أنّ المبلغ يقترب من ثلاثة آلاف يورو.
أمّا بالنسبة إلى الدفن في فرنسا، فبعد تجاوز الحاجز النفسي والعاطفي، تكمن الصعوبة في قلة المقابر الفرنسية التي تضمّ أجنحة أو "مربّعات إسلامية" مثلما يطلق عليها بالفرنسية. فتلك المربّعات الإسلامية لا تتجاوز السبعين. وعندما تخلو مدينة أو بلدة فرنسية من تلك المربعات، فإنّ العائلات تضطر إلى دفن أمواتها في أماكن بعيدة. ثمّ تأتي التكاليف باهظة بالنسبة إلى كثيرين يعيشون بمعاشات تقاعد هزيلة. ويتوجّب على العائلة توفير تكلفة الدفن التي تتراوح ما بين 1400 يورو و6600 يورو، مع مراعاة المقبرة وشهرتها وقربها أو بعدها، وأسماء المشاهير المدفونين فيها، وأمور لوجستية.
بالتالي، فإنّ عملية شراء القبور ليست بالأمر السهل. ولا يتعلق الأمر بعملية شراء حقيقية، بل هو عبارة عن إيجار قد يطول، 30 سنة قابلة للتجديد، أو قد يقصر، ما بين 10 و15 سنة. وعند انتهاء تلك المدة، تُنصح العائلة أو ما تبقى منها بتجديد عملية الإيجار، وإلاّ فإنّ للسلطات الفرنسية المختصة الحق والصلاحية لتأجير القبر لعائلة أخرى، مع ما يتطلبه الأمر من تخلص من العظام عن طريق الإحراق. وهو ما يسبّب قلقاً وغضباً لدى مسلمي فرنسا. بالنسبة إلى العجوز أحمد، فإنّها "عملية عذاب رهيبة بمجرّد التفكير فيها". ويوضح أنّه ضمن دفنه في المقبرة نفسها التي دُفن فيها أبوه في أرض الأجداد، بفعل التأمين على نقل جثمانه الذي سجّله قبل عقود مع أحد المصارف المغربية. والإحراق بالنسبة إلى الحاجة حليمة "فكرة لا تطاق"، ولا تخفي فزعها الكبير من احتمال عدم قدرة ورثتها أو انعدام رغبتهم في تجديد إيجار قبرها إذا دُفنت في فرنسا، وهو ما يجعلها ترفض فكرة بقاء جثمانها في فرنسا بطريقة لا تقبل الجدال.
تجدر الإشارة إلى أنّ التخلص من القبور بعد انتهاء عقود إيجارها لا يتعلّق سوى بالناس البسطاء، إذ إنّ السلطات ما زالت تحافظ على قبر مالك أوسيكين، الطالب الجزائري الذي قتلته الشرطة الفرنسية في إضرابات 1986 الطالبية والذي دفن في مقبرة بير لاشيز الباريسية الشهيرة، وكذلك على قبر الشرطي أحمد لمرابط الذي قتله الإرهابيون الذين هاجموا صحيفة "شارلي إيبدو" ودُفن في المقبرة الإسلامية الوحيدة في فرنسا في ضاحية باريس.
وفي انتظار قرار صريح وواضح من السلطات الفرنسية يضمن عدم التخلص من رفات موتى المسلمين عن طريق الإحراق، من المتوقّع بحسب جعفر المغربي أن "يواصل مسلمو فرنسا بمعظمهم إرسال موتاهم إلى أرض الأجداد، وأن تواصل شركات التأمين حصد أرباح كبيرة". يُذكر أنّه يدفع نحو 40 يورو سنوياً في مقابل تأمين نقل جثمانه.