عند بلوغ اليابسة الإيطالية، أو أيّ من الجزر التابعة لها، تكون وجهة المهاجرين في الغالب، مراكز الاستقبال والإيواء. خلال رحلته، نجح "العربي الجديد" في دخول عدد من تلك المراكز ونقل قصص نزلائها. إليكم الحلقة الثانية من ملف "السجن الأبيض المتوسط".
إنّه يوم من أيام سيراكوزا الباردة، تلك المدينة الساحلية الخلابة التي تبدو وكأنّها المكان المناسب للأرستقراطية الإيطالية المحبة للفنون. لكنّ الوقت غير مؤات للاستمتاع بهندسة المباني المعمارية اللافتة أو بالتماثيل المنتصبة وسط المدينة، وأبرزها تمثال أرخميدس، إذ ينبغي التوجّه باكراً إلى بوتسالو التي تبعد نحو 15 كيلومتراً، لملاقاة فوج جديد من المهاجرين الوافدين بحراً.
تبدو الأجواء مربكة جداً في ذلك المركز الذي يُعَدّ أوّل نقطة استقبال للمهاجرين الذين تلقفتهم البحرية الإيطالية في عرض البحر. فهو نقطة عسكرية محظورة على العامة، والدخول إليها مقيّد بقوانين صارمة. لكنّ "العربي الجديد" تمكّن من ولوج المركز بطرق خاصة. كان علينا الالتزام بالصمت المطبق لعدم فضح جهلنا اللغة الإيطالية والاكتفاء بمراقبة ما يحدث، في حين راح ناشطون إيطاليون من جمعيات وتعاضديات تُعنى بإيواء المهاجرين، يساعدوننا في التقاط صور من داخل ما يسمى "هوت سبوت"، وهي نقطة خاصة تُعتمَد فيها مقاربة أوروبية خاصة للتعرّف على المهاجرين الوافدين وتسجيلهم وتوثيق بصماتهم.
في المكان، أطفال أفارقة يتنقلون هنا وهناك، ووجوه تطلّ من خلف أبواب بعيدة. وتخرج الدفعة الأولى من المهاجرين الذين سوف يُوزّعون على مختلف الجمعيات، إلى الساحة المسيّجة بقضبان والتي تعلوها لافتة كبيرة كُتِب عليها بلغات عدّة: "أنتم موجودون في مركز استقبال مدينة بوزالو (بوتسالو) في صقلية، إيطاليا… أهلاً وسهلاً".
يبتسمنَ لمستقبل جديد (العربي الجديد) |
في استقبال مهاجرين إريتريين
المهاجرون جميعهم من إريتريا، هذا اليوم. فجأة، يخرج أطفال ومراهقون من إحدى غرف المبنى باللباس نفسه، كأنّهم مجموعة كشفية، ويصطفون في طابور طويل قبل أن تبدأ عملية تقسيمهم على الجمعيات والتعاضديات التي كانت في استقبالهم ليُنقلوا من ثمّ إلى مراكز الإيواء. لا أحد يعرف مع من سوف يكون وإلى أين سوف يذهب، الأصدقاء قد لا يبقون معاً. إنّها تجربة جديدة في المجهول، وتبدو الوجوه السمر وكأنّها تبحث عن إجابات حول الحياة الجديدة التي تنتظر أصحابها.
نستقلّ واحدة من سيارات التعاضديات، ومعنا فيوري وسلام، فتاتان إريتريتان تبلغان من العمر 15 عاماً. نحن متلهفون لمعرفة خبايا مغامرتهما. ما الذي قد يدفع فتاتَين مراهقتَين من إريتريا للمجيء إلى إيطاليا؟ كيف تقامران بحياتيهما؟ من يقف خلف قرار هجرتهما؟ من يموّل الشبكات التي لجأتا إليها؟ كيف كانت رحلتهما وأين تنتهي مغامرتهما؟
تخبر فيوري، التي تتحدّث العربية بعض الشيء، أنّ رحلتهما بدأت في سيارة تهريب من إريتريا مروراً بإثيوبيا والسودان عبر الصحراء، ثمّ ليبيا حيث قضتا شهراً كاملاً. تضيف أنّ كلفة الرحلة بلغت نحو سبعة آلاف دولار أميركي "حصلنا عليها من العائلة". وتتابع فيوري: "بقينا في ليبيا نحو عشرة أشهر في ما يشبه السجن تعرّضنا فيه إلى معاملة سيئة للغاية وضرب. فاتصلنا بأهلنا لنعلمهم بأنّ حياتنا في خطر، حينها أرسلوا لنا المال الذي سمح لنا بالانطلاق إلى إيطاليا في أحد المراكب، بينما بقي أصدقاؤنا هناك، إذ لا يملكون مالاً". وتؤكد فيوري: "جئت إلى إيطاليا لإتمام دراستي أوّلاً، ثمّ العمل بعد ذلك"، في حين تشير إلى أنّها لم تتصل بعد بأهلها لتطمئنهم، إذ إنّها لا تملك هاتفاً بعد.
الملجأ أو مركز الإيواء هو كناية عن فيلا كبيرة تقع في ضواحي سيراكوزا وتضمّ غرفاً عدّة، كل واحدة منها تحوي مجموعة من الأسرّة، إلى جانب مطبخ وقاعة استقبال. ندخل إلى المركز، ونصادف عدداً من الفتيات الأفريقيات اللواتي وصلنَ قبل فترة. يسترعي انتباهنا وجود رضيع صغير، والدته تُدعى أمدميا، وهي فتاة من مالي لم تبلغ بعد الثامنة عشرة من عمرها. تقول أمدميا: "أتيت من مالي، ومررت بنيجيريا ثمّ ليبيا. استغرقت الرحلة نحو أسبوع واحد، لكنّني بقيت ثلاثة أعوام في ليبيا برفقة والدي ووالدتي وشقيقي. هناك، عملت في مجال التنظيف إلى أن هاجرت بطريقة غير شرعية برفقة شقيقي وابني بعدما تخلى عنّي خطيبي وخلف بوعده بالزواج". تضيف: "دفعت نحو ألف دينار ليبي (نحو 750 دولاراً أميركياً) لأتمكّن من استقلال المركب. استغرقت الرحلة يومَين، قضيناها في البحر إلى أن أنقذتنا البحرية الإيطالية". وعلى الهامش، تشير أمدميا إلى أنّها "مغرمة بمجال الموضة وتصميم الأزياء".
تشرف على المركز امرأتان، هما سالفاتريس وفالنتينا، تعبّران لـ"العربي الجديد" عن "سعادتنا باستقبال الفتيات الجديدات"، مؤكدتان أنّهما سوف تقدّمان لهنّ "عائلات جديدة". سالفاتريس هي مرشدة اجتماعية، تخبر أنّها لطالما حلمت "بخدمة اللاجئين وإعانة من هم في حاجة من بينهم". وهذه للأمانة، سمة لدى كثيرين من الإيطاليين، على الرغم من أنّ الظاهر هو استغلال لهذه القضية من قبل شبكات ومافيات حوّلت الأمر إلى "بزنس" واسع النطاق خلّف "فضيحة" في إيطاليا.
قليل من البهجة بعد المعاناة (العربي الجديد) |
شهادات فتيّة
في رحلتنا هذه، يرافقنا الفنان التونسي رمزي الهرابي، الذي يختصر حياته بالفن والمهاجرين. التقيناه قبل يوم في مدينة كاتانيا حيث كان عضواً في لجنة تحكيم لمسابقة عرض أزياء خاص بافتتاح احتفالات سانتا أغاتا، حامية المدينة وشفيعتها، في فبراير/ شباط الماضي. بالنسبة إلى الهرابي، فإنّ "ثمّة ضرورة لدخول المهاجرين إلى المجتمع الإيطالي من باب الثقافة والفن"، لذلك حرص على أن تشارك مهاجرتان في العرض. ربما يكون لأمدميا مستقبل في هذا المجال.
في وسط الجمهور الغفير الذي كان يشاهد العرض، شباب مرّوا في مركز الإيواء. عبد الإله، شاب مغربي يبلغ الثامنة عشرة من عمره، يتقد حماسة. يخبر أنّه غادر المغرب من ضواحي مراكش إلى الدار البيضاء، ومنها سافر جواً إلى تونس بموافقة من عائلته، ثمّ إلى طرابلس جوّاً كذلك. يضيف: "وصلت بداية إلى مدينة زوارة، لكنّني نُقلت وآخرين من مكان إلى آخر تجنباً للتفتيش. فقد حوّلت نحو 1500 يورو إلى الوسيط بعد وصولي إلى ليبيا". يتابع عبد الإله: "بقيت نحو شهر في ليبيا في مكان مغلق، لكنّ المعاملة كانت عادية. بعد ذلك، استقللت مع نحو 90 مهاجراً مركب هجرة، لتستمرّ الرحلة 12 ساعة في البحر". بالنسبة إليه، فإنّ "هذه المدّة معقولة، إذ إنّ ثمّة مراكب أخرى تمتد رحلتها أياماً أو تتوه في عرض البحر". يُذكر أنّ عبد الإله موجود في إيطاليا منذ نحو عام، وقد بدأ تدريباً مدفوع الأجر، من دون تحديد للمجال. ويقول الشاب: "عندما قرّرت المجيء إلى إيطاليا، فعلت ذلك بحثاً عن تحسين وضع عائلتي الاجتماعي، لأنّ الظروف صعبة عندنا في البلاد. وأنا كنت أعمل هناك كذلك، بعد تركي مقاعد الدراسة.
في سيراكوزا، نزور أكثر من مركز إيواء، بعضها في أبنية تقع في وسط المدينة وأخرى في ضواحيها. في واحد منها، نلتقي بمحمد، وهو مهاجر من تشاد في السادسة عشرة من عمره. يخبر محمد أنّه انطلق من بلاده وعَبَر الصحراء الليبية برفقة مجموعة من المهاجرين، وبقي في ليبيا لمدّة عامَين ونصف العام يقوم بأعمال هامشية. ويشير إلى أنّ "ثمّة من كان يحسن معاملتي هناك ويمنحني أجرتي في وقتها، في حين أنّ ثمّة من كان يهددني بالقتل في المقابل". يضيف محمد: "كنت أنوي العمل في ليبيا ثمّ العودة إلى تشاد، لكنّ طريق العودة كان محفوفاً بالمخاطر، إذ إنّ إلقاء القبض عليّ كان مؤكداً. كذلك، لم يكن في إمكاني السفر جوّاً، لأنّني دخلت إلى ليبيا بطريقة غير قانونية". وعن السبب الذي دفعه إلى الهجرة السرية، يقول محمد إنّ "التعليم غير جيّد في بلادي، لذا رأيت ضرورة الرحيل". هو لم يكن يملك المال الذي طلبه من نظّم تلك الهجرة، "غير أنّني عملت معه مقابل ألفَي دينار ليبي (نحو 1500 دولار) كانت ثمن عبوري إلى إيطاليا". يتابع أنّ "المجموعة التي رافقتني في تلك الرحلة السرية كانت بمعظمها من السنغال مع شخص واحد غيري من تشاد".
قبل شهر تقريباً، وصل محمد والمهاجرون الآخرون إلى إيطاليا، وهو يرى أنّ "الوضع جيّد هنا. فأنا سوف أتابع تعليمي لأسافر من ثمّ إلى فرنسا". ويلفت الشاب إلى أنّ "والدي وافق على سفري إلى ليبيا في حين عارضت والدتي الأمر بسبب صغر سنّي، لكنّ أيّاً من أفراد عائلتي لم يعلم بهجرتي إلى إيطاليا. وأكثر ما يحزنني هو أنّني تركت أصدقائي وعائلتي، إلا أنّني غير نادم. فأنا أنوي إنهاء دراستي كلياً".
البحر الذي كاد يبتلعهم صار وراءهم (العربي الجديد) |
إصرار على البقاء
ونلتقي بعبد الحق، شاب مغربيّ آخر، في الثامنة عشرة من عمره. يقول إنّه غادر البلاد في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول 2017، وقد سافر جوّاً إلى تونس ثمّ ليبيا تمهيداً لوصوله إلى إيطاليا. وعبد الحق، بحسب ما يقول، "مغرم بكرة القدم، لكنّني لم أجد تشجيعاً في بلدي، لذلك قررت الهجرة". ويشير إلى أنّه كان يعمل في المجال الزراعي في المغرب، "لكنّني أؤمن بأنّ مستقبلي ليس في الفلاحة بل في كرة القدم مثل لاعبي الدول الأوروبية". ويخبر أنّ "الهجرة السريّة كلّفتني 1500 يورو، بعدما توسّطت لي شابة ليبية كنت أتواصل معها عبر تطبيق واتساب لدى وسيطَين وعداني بالهجرة. وقد أرسل إليّ شقيقي حوالة ماليّة إلى ليبيا بقيمة المبلغ المتفق عليه". يُذكر أنّ والده كان رافضاً لهجرته.
في ليبيا، بقي عبد الحق 22 يوماً، وقد استقرّ خلالها في منطقة العجيلات (غرب طرابلس)، برفقة صديق له من المغرب. يشير إلى أنّه "طيلة 20 يوماً لم نرَ الشمس، وكانت المعاملة سيّئة من قبل الوسيطَين الليبيَّين اللذَين كانا يهدّداننا بالسلاح. وبعد ذلك، غادرنا في صباح باكر ليبيا، لكنّنا بقينا لساعات عدّة في عرض البحر نواجه مصيرنا. فمن يدير العمليّة أزال محرّك المركب وعاد به ليستخدمه مجدداً في هجرات سرية أخرى، وتركنا وحدنا". بقوا من الساعة العاشرة صباحاً إلى السادسة مساء في عرض البحر، في حين يترنّح المركب ويكاد يغرق. فهو كان يحمل على متنه 110 مهاجرين بقوا من دون طعام ولا مياه إلى حين وصلت إليهم فرق البحرية الإيطالية ونقلتهم إلى اليابسة. ما زالت أمام عبد الحق 10 أشهر في مركز الإيواء، وهو يكتفي بممارسة رياضته المفضّلة فيه، وليس بالطريقة التي كان يحلم بها. وعند سؤاله عن إمكانية عودته إلى المغرب في حال جرى انتدابه في فريق مغربي، كان الردّ سريعاً وبسيطاً: "كلا".
نهايات سعيدة محتملة
تجدر الإشارة إلى أنّ قصص المهاجرين لا تخلو من بعض النهايات السعيدة، وقصّة مجدي البالغ من العمر 20 عاماً، واحدة منها. يروي أنّه "قبل ثلاثة أعوام، تركت مصر ووجهتي إيطاليا. فخرجت في سفينة صيد انطلقتْ من الإسكندرية، لأبقى مدّة سبعة أيام في عرض البحر قبل بلوغ اليابسة الإيطالية". ويشير إلى أنّ "172 شخصاً كانوا معي على متن المركب نفسه، معظمهم مصريون وسوريون"، مضيفاً أنّه دفع "35 ألف جنيه مصري (نحو ألفَي دولار) لقاء تلك الرحلة". أمّا اليوم، فإنّ مجدي يعمل مترجماً للمهاجرين عند وصولهم إلى إيطاليا.
لا يخفي مجدي أنّ العائلة التي علمت بهجرته، اختلفت آراء أفرادها. يقول إنّ "بعضهم شجّعني في حين رفض بعض آخر الفكرة. لكنّني خضتها في النهاية". بالنسبة إليه، فإنّ "الرحلة كانت صعبة في سفينة طولها 20 متراً، وكنت أتوقّع أن تكون الظروف أفضل استناداً إلى المبلغ الذي سدّدته، لكنّني كنت أنام جلوساً مع عشرات الأشخاص". ويتابع أنّ "سفينتنا كانت تجرّ مركباً صغيراً، أمرونا بالانتقال إليه في وقت لاحق، قبل أن تغادر السفينة. وبقينا في عرض البحر إلى حين وصول البحرية الإيطالية". ويلفت مجدي إلى أنّ "بعضنا كاد يموت جوعاً. وبعدما أوصلتنا البحرية الإيطالية إلى اليابسة، نُقلنا في اليوم التالي إلى مخيّم للمهاجرين. وهناك، صرت أعمل مترجماً لمساعدة بعض المهاجرين في استفساراتهم". يُذكر أنّ عدداً من أصدقائه المصريين الذين رافقوه في رحلته، تفرّقوا بين ميلانو ومناطق أخرى، وثمّة من حقّق حلمه وثمّة من ينتظر تحقيقه.