تقضي العراقية هناء جبار أغلب وقتها بين الأطفال الأيتام. هَمُها الأول التخطيط لإسعادهم، والتفكير في كيفية إيصالهم إلى عتبات النجاح، ليصبحوا منتجين أكفاء ينفعون بلدهم. هي لا تكتفي بدورها في تربية النشء كمعلمة في مدرسة ابتدائية، بل تمارس نشاطاً طوعياً في جمعية أهلية تعنى بالأيتام والأرامل.
يتحلق حولها الصغار، سواء في المدرسة أو الجمعية، فهي تملك سحرا يجذب الأطفال ويجعلهم يرون فيها أماً حنوناً، هو "حُب الطفولة" حسب قولها.
يغلب على من يعملن في مؤسسات تهتم بالطفولة أنهن حُرمن من الأطفال، لذلك يفرغن عاطفتهن في تلك الأماكن، لكن هناء المولودة عام 1973، لديها ثلاثة أطفال، وحنانها يفيض بالمزيد، ما جعلها تعشق العمل التطوعي مع الأيتام الصغار.
تسكن هناء منذ عام 2007، في محافظة النجف (160 كلم جنوب بغداد)، فقد غادرت العاصمة بحثاً عن الأمان، كما أنها لا تعيش وضعاً مالياً يدعمها في العمل التطوعي، فهي لا تملك سوى راتبها، "مرتبي من عملي في التعليم يسد إيجار البيت ومصاريفي أنا وأطفالي".
مرت السيدة العراقية بعدد من المحن التي زادتها إصراراً على المواجهة. تسرد لـ"العربي الجديد"، تفاصيل موجعة من حياتها بدأت عام 2006، كانت حينها تسكن في بغداد التي ولدت فيها. "كان زوجي عسكرياً في الجيش قبل الاحتلال في 2003، بعدها بدأ العنف والقتل بدوافع طائفية، وكانت بعض الفصائل المسلحة تعتبر العمل في الجيش والشرطة تعاونا مع المحتل، لذلك كان زوجي يخفي عودته للعمل في الجيش، ويذهب إلى عمله بالزي المدني، مثلما كان حال جميع العسكريين آنذاك".
وتضيف "لأسباب طائفية قُتل والد زوجي عام 2006، وفي العام نفسه اقتحم مسلحون منزلنا واعتقلوا زوجي، وبعد بحث طويل وجدت جثته قرب شاطئ نهر دجلة. دأب زوجي على أن يحمل في حافظة نقوده صور أطفالنا، ووجدنا مع جثته الصور مقطوعة الرأس، فتَيَقنّا أنه تهديد بقتلنا جميعا".
وشاع في العراق عنف طائفي بين 2005 و2009، تضمن رسائل تهديد بالقتل، وكان على من يتلقى رسالة تهديد أن يغادر مسكنه وإلا سيكون مصيره محتوما، وعلى أثر التهديدات بدأت موجات من الهجرة بين المحافظات، فيما فضل آخرون الهرب إلى خارج البلاد.
تقول هناء، إن "حالة رعب كانت تسيطر على صغاري؛ فقد شاهدوا والدهم عند اقتياده بشكل مرعب من قبل المسلحين عندما اقتحموا منزلنا، ثم حضروا جنازته، وكانوا يشعرون أنهم مهددون بالقتل في أية لحظة".
وأضافت: "الرعب كان يسيطر علينا بشكل مستمر؛ فمنذ أن بدأت بغداد تشهد أعمالاً طائفية، صرنا نرى الجثث في الشوارع. أطفالي شاهدوا مرات عديدة جثثا على الرصيف، أو معُلقين على عمود كهرباء. بقيت هذه المشاهد عالقة في مخيلة الصغار لوقت طويل".
وتتابع "وصلتنا دعوة من معارف في النجف التي عُرفت باستتباب أمني، واستقطبت العديد من الهاربين من القتل، فرحلت برفقة أطفالي ووالدي إلى هناك. هنا بدأ مشوار المأساة، فوالداي مريضان، وليس لهما مورد مالي، وأنا تركت وظيفتي. اعتمدنا لفترة على مساعدات جهات إنسانية، وما يرسله لنا شقيقي وشقيقتي من خارج البلاد من مبالغ مالية".
توفي والدا هناء لاحقا، وبقيت غريبة وسط مدينة لم تألفها، لكنها لم تسقط في شباك اليأس، وتمكنت من العودة إلى العمل في مدرسة ابتدائية لأنها تحمل شهادة معهد المعلمين، وكان لشغفها في العمل وخبرتها في التعامل مع الأطفال دور في أن تحوز حب الطلاب.
تقول: "في النجف بدأت من الصفر، وبعد أن تمكنت من الاستقرار، قررت بالإضافة إلى عملي أن أكمل دراستي الجامعية، وبالفعل حصلت على شهادة البكالوريوس".
وجدت هناء أنها تملك متسعاً من الوقت يمكنها أن تستغله في منفعة الآخرين، لتبدأ مرحلة أخرى مستغلة خبرتها في التعامل مع الأطفال، وخبرات متراكمة في العمل الإعلامي؛ إذ سبق أن مارست العمل الصحافي في مؤسسات إعلامية في بغداد، وجدت في مؤسسة خيرية تطوعية تهتم بالأرامل والأيتام ملاذاً لتطلعاتها؛ لا سيما وهي تشعر بألم الأرامل والأيتام.
كان ذلك قبل عام تقريباً، تقول هناء، "لقد وجدت ذاتي في هذه المؤسسة. عملي هو إدارة إعلام المؤسسة، وعلاقاتي مباشرة بالنساء الأرامل. أستغل علاقاتي بالمؤسسة التعليمية في النجف، وعلاقات أخرى كونتها مع عدة جهات لكي نوفر الدعم النفسي والمادي للأرامل والأيتام. المؤسسة تعتمد على المتبرعين، وجميع من يعمل فيها شباب متطوعون".
وأشارت إلى أن "ميسورين كأصحاب مراكز ترفيه يتبرعون باستقبال الأطفال واستخدام الملاهي مجاناً، وهذا أيضاً ما يفعله متبرعون من أصحاب المطاعم والمراكز التجارية، كل هذا يساعد في تحسين الحال النفسي للأطفال وأمهاتهم".
وتسعى هناء وزملاؤها إلى إنشاء مجمع سكني يجمع العوائل، تقول لـ"العربي الجديد": "توجد قطعة أرض مناسبة خططنا لاستغلالها لتكون مجمعاً سكنياً، وننتظر الداعمين لإنشاء المجمع. سأرتاح كثيراً حين أرى الأيتام وأمهاتهم الأرامل يسكنون بيوتاً جيدة تتوفر فيها الاحتياجات اللازمة لبيت مريح".