كان الطفل السوداني عبد الله بدر الدين التجاني في الحادية عشرة من عمره وفي الصف الرابع، عندما اصطحبه والده هو وشقيقه الأصغر وليد إلى مدينة سرت الليبية. هناك، جعلهما في صفوف تنظيم "داعش"، ومكث بالتالي لمدّة ثلاث سنوات وسط رائحة الموت والبارود.
قبل أيام، عاد عبد الله إلى السودان وحده، إذ إنّ شقيقه الأصغر ووالده قُتلا في العام الماضي، خلال معركة تحرير سرت من "داعش" من قبل قوات البنيان المرصوص. انتهت المعركة بطرد داعش من المدينة والقبض على عشرات من عناصر التنظيم ومن بينهم سودانيون وسودانيات. عبد الله كان واحداً من الذين ألقي القبض عليهم، لكنّه ونظراً إلى صغر سنّه أحيل إلى جمعية الهلال الأحمر في مصراته قبل تسليمه إلى ذويه في الخرطوم.
لم يستطع عبد الله إيجاد الكلمات المناسبة خلال محاولة "العربي الجديد" الحديث معه، ولا الكشف عمّا كان يقوم به خلال السنوات الثلاث الماضية في خدمة التنظيم، واكتفى بالقول وهو في حضن أمه الذي استقبلته في مطار الخرطوم: "أريد أن أعود إلى فصول الدراسة لكي أكمل تعليمي، حتّى أتخرج وأعمل في أيّ وظيفة".
من جهتها، تقول الوالدة سمية لـ"العربي الجديد" إنّ "شعوري بعودة ابني اليوم إلى حضني لا يوصف، وسوف أرعاه خير رعاية حتى يعود إلى حياته الطبيعية"، موجّهة شكرها إلى كل من ساهم في إعادته. وتحكي الوالدة أنّ "زوجي غدر بي، حينما قال إنّه يصطحب الولدَين في رحلة داخل السودان لمدّة يومَين فقط. فالرحلة طالت وطالت ووصلت إلى شهور، قبل أن أتلقى اتصالاً من عبد الله يخبرني فيه أنّهم في سرت الليبية وأنّهم انضموا جميعهم إلى تنظيم داعش. لم أصدّق ذلك، لكنّني أوصيته بالانتباه على أنفسهم والابتعاد عن مناطق القتال". تضيف الوالدة أنّ "الاتصال انقطع كلياً بعد ذلك، حتى سمعنا بمعارك سرت. وقبل أشهر، أخبرونا بأنّ زوجي قُتل في المعارك وأن مصير الولدَين مجهول/ قبل أن أتلقى اتصالاً من قبل الجيش الليبي يخبرني بأنّ عبد الله معهم". وتتابع: "بعد إعادة أطفال آباء وأمهات من داعش في أغسطس/ آب الماضي، أخبرني بعض الأطفال بأنّ وليد قُتل في أثناء المعارك. تعرّضت حينها لصدمة كبيرة، لكنّ عزائي كان في أنّ ابني الأكبر ما زال حياً".
أمّا عمر الزبير سعد، وهو خال عبد الله، فيؤكد لـ"العربي الجديد" أنّ "الأسرة سوف تبذل قصارى جهدها من أجل إعادة تأهيل ابنها، وذلك بالتعاون مع جهود وعدنا بها جهاز الأمن والاستخبارات السوداني ومجلس الرعاية والتحصين الفكري المتخصص في مثل هذه الحالات".
لم يكن عبد الله الوحيد الذي عاد قبل أيام إلى السودان، فرحلته من ليبيا إلى البلاد ضمّت طفلَين آخرَين هما سمية آدم محمد ومعاوية عبد الله يحيى، إلى جانب سبع نساء سودانيات كنّ قد انضممنَ إلى التنظيم في عام 2015، وذلك بعد جهود بذلها جهاز الأمن السوداني عبر التفاوض مع السلطات الليبية أفضت إلى إطلاق سراحهنّ والسماح لهنّ بالعودة إلى بلادهنّ. والنساء هنّ أبرار عبد السلام العيدروس، ومنار عبد السلام العيدروس، وحاجة حسن أبو بكر صغيرون، ونورة حسن أبو بكر صغيرون، ونورة صابون محمد، وحنان عبد الرحمن إسحق، وأصالة حسن عثمان.
وبمجرّد وصولهنّ إلى مطار الخرطوم، استقبلتهنّ أسرهنّ بالأحضان والدموع والصمت في كثير من الأحيان. وهؤلاء النساء العائدات بدونَ فرحات بعودتهنّ، وباسمهنّ تحدّثت أبرار عبد السلام العيدروس إلى الصحافيين والدموع تنهمر من عينَيها. فشكرت الرئاسة السودانية والهلال الأحمر الليبي وجهاز الأمن السوداني، غير أنّها عجزت عن استكمال كلمتها، إذ أجهشت بالبكاء وارتمت في حضن والدها.
تجدر الإشارة إلى أنّ أبرار ومنار عبد السلام العيدروس هما شقيقتان توأم من ولاية الجزيرة (وسط السودان) وقد قضتا نحو ثلاث سنوات في ليبيا وتزوجتا من مقاتلَين وأنجبنَ منهما. لكنّ الزوجَين والأبناء قتلوا خلال القصف على سرت في العام الماضي. ويعبّر هنا والدهما عبد السلام العيدروس، عن فرحته بعودة ابنتَيه، مؤكداً لـ"العربي الجديد" أنّ يجهل الأسباب التي دفعتهما إلى الانضمام إلى "داعش" حتى الآن، وأنّ الأمر يحتاج إلى تحقيقات. من جهتها، تقول والدتهما نبيلة إدريس لـ"العربي الجديد" إنّ "شعوري بعودة منار وأبرار لا يمكن أن تصفه كلمات. الفرحة كبيرة على الرغم من تأخّرها سنتَين وسبعة شهور". وترى والدتهما أنّ "المستقبل مفتوح أمامهما، خصوصاً وأنّهما في الثانية والعشرين من عمرهما". وتتّفق مع زوجها على أنّ أسباب انضمامهما إلى "داعش" مجهولة، "خصوصاً أنّهما كانتا قبل ذلك منخرطات في جمعيات الخيرية".
في السياق، يقول العميد التجاني إبراهيم، مدير إدارة مكافحة الإرهاب في جهاز الأمن والاستخبارات السوداني لـ"العربي الجديد"، إنّ "إعادة المنضمّات إلى داعش جرت بتنسيق عال من قبل الأجهزة الأمنية الليبية وقوات البنيان المرصوص التي ألقت القبض عليهنّ والهلال الأحمر الليبي". ويشير إلى أنّ الجهاز سوف يتواصل مع هؤلاء "لمعرفة أسباب انضمامهنّ إلى تنظيمات إرهابية. كذلك سوف يخضعنَ إلى تقييم نفسي ومتابعة مع أسرهنّ بهدف دمجهنّ في المجتمع". يضيف إبراهيم أنّ "كل ذلك سوف يجري بالتعاون مع مجلس الرعاية والتحصين الفكري الذي أنشاته الحكومة قبل أربع سنوات، بعد تزايد هروب شباب السودان للانضمام إلى داعش سواء في ليبيا أو العراق أو سورية".
ويتجاوز عدد السودانيين الذين انضموا إلى تنظيم "داعش" 200 شخص، معظمهم من طلاب الجامعات، خصوصاً جامعة العلوم الطبية (خاصة). وقد أشارت تقارير صحافية سابقة إلى وجود خليّة تابعة إلى "داعش" تنشط في تنجيد الطلاب والطالبات لتسفيرهم إلى ليبيا أو العراق أو سورية بهدف القتال في صفوف التنظيم، مع التركيز على طالبات العلوم الطبية من أجل الاستفادة منهنّ في تقديم الرعاية الصحية للمقاتلين. كذلك عمد التنظيم على تزويج المنضمات إليه بمقاتلين في صفوفه.
إلى ذلك، يؤكد رئيس الجالية السودانية في مصراتة الليبية، معتز ميرغني، أنّه بعودة عشرة من المنضمين إلى "داعش" في ليبيا، لم يُعد في السجون الليبية أيّ امرأة سودانية أو طفل سوداني، في حين يشدد العميد إبراهيم على أنّه لن يهدأ لهم بال إلا بإعادة جميع المقاتلين السودانين مع الجماعات الإرهابية حيثما وجدوا.