فلسطينيون أوصلتهم نكباتهم إلى شمال أوروبا

22 مايو 2018
جيل جديد من الفلسطينيين المهاجرين (العربي الجديد)
+ الخط -
موجات هجرة عديدة دفعت الفلسطينيين إلى ألمانيا والدنمارك والسويد والنرويج وغيرها في شمال أوروبا، ليجد اللاجئون أنفسهم بعيدين جداً عن وطنهم الأصلي وعن البلدان التي لجأوا هم أو لجأ أهلهم إليها عام 1948

انضم سعيد حمدان إلى عشرات آلاف الفلسطينيين المقيمين في السويد وألمانيا والدنمارك، منذ عقود. لكنّه بعد عشرين عاماً على وصوله يشعر كأنّه هاجر أمس: "تبقى معلقاً بين حياة وأخرى". حالة سعيد في الغرب تشبه كثيراً حالة فلسطينيي شمال أوروبا الذين اضطرتهم موجات هجرة عديدة لأن يشكلوا ذات يوم الجالية الأكبر في أوبسالا، شمال العاصمة السويدية استوكهولم.

موجات الهجرة كان بعضها اضطراراً للعمل في ستينيات القرن الماضي، من داخل فلسطين. فقد وجد أبو هشام نفسه فجأة، بعد أكثر من سنتين من هجرته عام 1965 إلى الدنمارك، ضمن قوافل عربية وغيرها في فترة الحاجة إلى يد عاملة مهاجرة، ممنوعاً من العودة إلى مدينته الخليل عقب حرب عام 1967. ترك أبو هشام طفله الصغير وراءه وحيداً عند جديه بعد وفاة أمه، على أمل أن يبني له مستقبلاً من عمله في الغربة. ومثل آلاف غيره، وجد نفسه يصارع لأجل أن يستطيع التغلب على منع عودته بعد احتلال الضفة الغربية في تلك الأيام التي يصفها بالآتي: "كنت تشعر بخيبة وانكسار في ريعان شبابك وأنت ترى حماسة محيطك الغربي لاحتلال بلدك، وفي الوقت نفسه انكسار أصعب بسبب هزيمة الجيوش. بكيت وبحسرة على تلك الهزيمة المدوية، لكنني قررت بعدها أنّ ذلك بالضبط ما أريد لنا، أن ننهزم، فاستجمعت قواي وسافرت إلى الأردن وجلبت ابني معي". في تلك الأيام كان أبو هشام قد تزوج دنماركية، ربت ابنه مع أخويه اللذين ولدا بعد سنة من مجيئه و"ربك فتحها بعدها من ناحية العمل، فرزقني بمسعاي لأن أعود إلى الخليل مهما كلف الأمر".




وإذا كانت تجربة أبو هشام مع الهجرة، بالرغم من صعوباتها النفسية، في الموجة الأولى، أنتجت تجمعاً فلسطينياً من داخل الخط الأخضر والضفة الغربية والأردن، فقد كانت هناك تجربة أخرى للجوء اضطراراً من مخيمات لبنان. فبعد مذبحة تل الزعتر وجدت أسر كاملة، ممن بقي على قيد الحياة، نفسها مضطرة إلى المغادرة. كانت برلين الغربية، آنذاك، الأكثر استقبالاً لتلك العائلات منذ عام 1976، إذ تجد هناك أسراً من آل عراقي وشحرور وغيرها قد استقر بها المطاف في ظروف نفسية صعبة جداً، بعد تشرّد وشتات لفترة طويلة. عن رحلة الهجرة تلك، يذكر أحمد عراقي لـ"العربي الجديد" أنّها "لم تكن بحثاً عن مستقر، بل وجدت نفسك مع جموع خارجة من مذبحة، وكلّ الظروف المحيطة تشبه حالة طرد جماعي. اعتقدنا أنّها هجرة مؤقتة، وفعلاً تسلل البعض عائداً، لكنها استمرت حتى باتت برلين أشبه ما تكون بعاصمة الشتات الأوروبي".

لم تتوقف موجات الهجرة تلك، ففي ثمانينيات القرن الماضي، اضطر الآلاف، بعد حرب المخيمات في بيروت والجنوب اللبناني، إلى البحث أيضاً "عن حياة كريمة على الأقل" يقول محمد خبيزة، الذي كان يأمل أن يجد عملاً كمساعد مهندس في السويد. خبيزة وجد نفسه بالفعل يعمل لدى شركة وبراتب جيد: "فكرت حينها في أهلي في لبنان، وبدأت أدخر النقود لتسفير بعضهم، وقد كانت الأمور أسهل في تلك الأيام عبر برلين الشرقية وبحراً إلى الدنمارك، لكن لم أستطع مساعدة الجميع".





اكتشف خبيزة، كغيره من فلسطينيي لبنان، الذين شكلوا أغلبية المهاجرين واللاجئين الفلسطينيين في أوروبا في تلك السنوات، أنّ "معضلة العودة صارت مضاعفة، فأنت تفكر في قضية عودتك إلى وطنك الأصلي فلسطين من ناحية، وفي العودة إلى لبنان، حيث الأهل، من ناحية أخرى. اندفع كثيرون منا إلى شراء شقق ومساكن في لبنان، معتقدين أنّ ذلك يخفف الأوضاع المزرية التي عشناها في المخيمات، وأنّ أولادنا سيجدون مسكناً حين نعود، لكنّك وبكلّ أسف تكتشف كم هو قاس التصرف العربي الرسمي الطارد لك".

يتحدث خبيزة، شأنه شأن إبراهيم أبو حميد، بكثير من المرارة عن "فترة التسعينيات، بعدما حصل بعضنا على جنسية وإقامات دائمة في دول إسكندنافية، فجأة يصير الفلسطيني المولود في لبنان مهدداً بالشطب من لوائح اللاجئين، بل الأدهى أنّه صار يحتاج إلى تأشيرة دخول إلى لبنان، وتلك فترة لا تنسى في أوجاع الوضع المرير الذي عشناه". إبراهيم يرى أيضاً أنّ "الإجحاف بحق فلسطينيي لبنان لم يتوقف حتى يومنا، فكيف لبلد أنت مولود فيه، تشتري سكناً فيه ويقولون لك إذا مت فممنوع توريثه؟ أغرب القوانين بحق الفلسطينيين لم أعشها في بلد غربي لجأت إليه. للأسف، البيئة العربية تجعلك تشعر أنّك ملفوظ منها، بالرغم من أنّها ترفع شعارات التأييد والتضامن معك".

أما موسى وكمال فهما من "جيل الاجتياح" كما يصفان، والمقصود بذلك الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982. ففي الفترة التي كان فيها الخوف على مستقبل اللاجئين في مخيمات لبنان هو السائد في أعقاب مذبحة صبرا وشاتيلا، وجد بعض الأهل حلاً في تسفير المراهقين من الأبناء "تفكيراً بإنقاذنا من أوضاع كلها مذابح وانقطاع عن المدارس". وبالرغم من استكمال الشابين دراستهما بين بريطانيا والدنمارك، ووصولهما إلى النجاح في مجال الهندسة التقنية، يقول موسى: "من عجائب ما واجهت أنّي كنت منتدباً مسؤولاً عن زميلين غربيين نحو بلد عربي، وكلنا نحمل ذات المؤهلات والجنسية، وإذ بالإخوة العرب يقررون أنّ راتب من أنا مسؤول عنهما أعلى من راتبي، فقد عاملوني وفق أصلي الفلسطيني، لا مؤهلاتي وجنسيتي التي أحملها". لم يمرّ الأمر كما أرادته تلك الدولة "فقد قررت شركتي التدخل، ولولا ذلك لما غيروا العقد، لكن لم يمضِ وقت طويل حتى بدأت ألمس معاملة لا تليق بالأخوة التي يرفع لواءها هؤلاء، فعدنا ثلاثتنا إلى شركتنا الأصلية".

كمال أيضاً حقق نجاحات في دول الشمال الأوروبي: "وجدت نفسي كمهندس زراعي، تخرجت من جامعة غربية، مضطراً إلى الهجرة مجدداً نحو النرويج عام 1991، بعد عملي في بلد عربي، إذ مررنا بمرحلة عصيبة من ترحيل الفلسطينيين، وكنت أفكر: ماذا سأفعل في لبنان؟ فأصلاً نحن ممنوعون من العمل، ولم يكن أمامي سوى الهجرة مع زوجتي وأبنائي، قبل أن يجري وضعنا على الطائرة، وبطرق تهريب لا أتمناها لعدو وليس لأخ". يتابع: "أقسى الأوقات كانت، إذ تحلم في عودتك إلى وطنك فلسطين، وفجأة تجد نفسك مطروداً من دولة عربية".





في موسم الهجرة الكبير، في تسعينيات القرن الماضي، عاش كثيرون من الجيل الفلسطيني الشاب ظروفاً صعبة جداً في شتاتهم الجديد، فعدا عن المصاعب النفسية: "لم تكن يومياتك في المخيم كأيّ إنسان عادي يبعد عنك مئات الأمتار، بل تنام وتصحو على حصار وقصف وانقطاع عن المدارس، وهو ما دفع نحو المهاجر"، وفقاً لوصف اللاجئ الفلسطيني محمد العلي، وهو يقف عند حافة ميناء كوبنهاغن، لتوديع متضامنين أجانب مبحرين نحو غزة لكسر الحصار. يضيف العلي: "أترى هذا المشهد؟ إنّه يختلف تماماً عن مشهد عودة صيفية يقوم بها أشقاؤنا العرب إلى أوطانهم، أو حتى عودة نهائية، فيما نحن كفلسطينيين لا نملك تلك القدرة، وهو ما يصنع فارقاً نفسياً كبيراً، لذا نردد كثيراً، أنّ للفلسطينيين وطناً يحملونه معهم أينما ذهبوا ويعيش في قلوبهم، فيما الآخرون قادرون على العودة والعيش في أوطانهم".


صديقه الشاب سامر سعدي (32 عاماً) لديه موقفه: "الجيل الأول من المهاجرين وجد صعوبة كبيرة في التأقلم، نتيجة ما عاشه في المخيمات وآمال شراء شقق والعودة إلى لبنان على سبيل المثال، فيما الجيل الثاني، وهو المتوجه أكثر نحو الدراسة والأعمال، وجد سهولة في تحقيق الانسجام بين فلسطينيته وجنسيته الأوروبية". يعتبر سعدي أنّ "هذا خلق جواً مختلفاً يستطيع من خلاله الجيل الجديد أن يكون أكثر واقعية وتفهماً لمسألة الحفاظ على الهوية، وفي الوقت نفسه الاندماج والتأثير في الواقع الذي يعيشون فيه".