اثنان وأربعون عاماً مضت على مجزرة تل الزعتر. المخيم القريب من بيروت اختفى من الوجود مع أهله في الثاني عشر من أغسطس/ آب 1976، لكن لم تختفِ مشاهد المأساة عن الطبيب يوسف عراقي
بعد الثاني عشر من أغسطس/ آب 1976، لم يبقَ من أثر لمخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين في شمال شرق العاصمة اللبنانية بيروت. لكنّ الحصار والمجزرة اللذين قتلا الآلاف نجا منهما الطبيب يوسف عراقي، فبات شاهداً حياً على ما جرى هناك.
عاش عراقي لاجئاً في مخيم تل الزعتر وعمل في المستشفى الوحيد في المخيم، وشاهد خلال أيام الحصار آلاف اللاجئين الآتين للعلاج في ظلّ منع دخول الأدوات الطبية والأدوية إلى المخيم. وثّق عراقي الأحداث فقد اعتبر أنّ من واجبه كتابة يومياته كي لا تضيع الذاكرة الجماعية للمخيم ويضيع معها تاريخ ما حصل في تلّ الزعتر. في كتابه "يوميات طبيب في تل الزعتر" دوّن مقولة ذاكرة للمخيم يقول فيها: "مخيم فلسطيني في شرق بيروت، كان اسمه تل الزعتر، اسمه أسال الدموع في كلّ البيوت الفلسطينية، ورفعت عند سقوطه رايات الحداد في المخيمات الفلسطينية. كان تل الزعتر عنواناً كبيراً جاب العالم، وأصبح رمزاً للصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني".
اقــرأ أيضاً
يقول عراقي لـ"العربي الجديد" عن سبب تدوينه المباشر لأحداث المجزرة والحصار: "كلّ عائلة من الضحايا في المخيم فقدت وجودها على الأرض. لم يكونوا في حاجة إلى معونات تموينية كالتي قدمها البعض بعد المجزرة، بل كانوا يحتاجون إلى تأكيد وجودهم، ولهذا كتبت اليوميات، وكنت أول من كتب لحفظ ذاكرة أهل المخيم، لأنني لو لم أفعل ذلك لكانت القضية ضاعت".
عراقي من مواليد عام 1945 في مدينة حيفا الفلسطينية المحتلة، هجّر مع عائلته وهو في الثالثة من عمره إلى بيروت وتعلّم في سنوات طفولته في مدارس الـ"أونروا". بعد تخرّجه من الثانوية العامة عام 1966 درس الطبّ في موسكو ضمن منحة دراسية من منظمة التحرير وتخرج منها عام 1974، وعمل طبيباً في مستشفى مخيم تل الزعتر في فترة الحصار (1975 - 1976) وكان من الناجين القلة من الحصار والمجزرة.
أكمل عراقي عمله كعضو في المكتب التنفيذي للهلال الأحمر الفلسطيني في لبنان، ودرس اختصاص جراحة المسالك البولية عام 1980، وتمكن من الحصول على شهادة الدكتوراه من جامعة "هومبولت في برلين" عام 1986، وعمل محاضراً جامعياً في كلية الطب بجامعة "أوسلو" وأستاذاً مقيماً فيها عام 1988، ثم تقاعد عام 2013.
بدأت أحداث حصار المخيم في بداية يناير/ كانون الثاني عام 1976 عبر مليشيا "الكتائب اللبنانية". يقول عراقي عن تلك الفترة: "عرفنا ببدء الحصار التمويني على تل الزعتر عندما منعت قافلة كانت تحمل مواد تموينية ومواد طبية من الدخول إلى المخيم. ومع بدء الأهالي الشعور بمعاناة التجويع، حاولوا فك الحصار، فكانت معركة حرش ثابت التي حاولت التصدي للقوات التي تحاصر المخيم، ليحصل بعدها اتفاق على إدخال المواد التموينية والأدوية".
في أواخر يونيو/ حزيران 1976 اشتدت المعارك، فحاولت القوات الفلسطينية حماية المخيم متصدية لمحاولات "الكتائب" دخوله. اعتاد عراقي خلال تلك الفترة أن يترقب الساعات الأولى من الصباح بحذر شديد، لأنّ ذلك كان يعطيه فكرة عامة عمّا سيحدث في ذلك النهار في ظل القصف المتواصل. وهو ما يتيح له أن يتجهز مع زميله الطبيب عبد العزيز اللبدي (الذي نجا بدوره من المجزرة)، وهما الطبيبان الوحيدان في المخيم، مع الممرضين، لأيّ طارئ.
يذكر عراقي أنّ يوم الثلاثاء 22 يونيو، كان الأكثر قصفاً على منازل المخيم التي دمر معظمها. وفي صباح الخميس 24 يونيو بدأ الأهالي في المخيم يغادرون ما تبقى من الأبنية المهدمة من جرّاء القصف، إلى الأبنية المجاورة في منطقة رأس الدكوانة. في اليوم نفسه، لم يبقَ إلاّ المستشفى والملاجئ التي لا تتسع لإيواء جميع الأهالي، ووصل إلى المستشفى بعدها المقاتل "أبو جبال" مصاباً برصاصة قناص في صدره، وكانت الإصابة كبيرة وخطيرة، وكان في حالة صدمة نتيجة نزيف حاد. أجريت له العملية واستغرقت وقتاً طويلاً، وبعد إعطائه عدة وحدات من الدم استطاع إنقاذ حياته بالرغم من ضعف الإمكانات الطبية المتاحة.
وفي اليوم نفسه أيضاً، سقطت قذيفة على غرفة الطوارئ في الطابق الأول من المستشفى، أحدثت فجوة كبيرة. ووصل إلى إلى الغرفة العديد من الإصابات بعدها. وبينما كان عراقي يفحص أحد المصابين، سقطت قذيفة قرب المبنى، فتطايرت الشظايا والغبار، حتى لم يعد يرى شيئاً أمامه. قبل لحظات من ذلك كان أهالي الجرحى والممرضون يحيطون به، وفجأة وجد نفسه وحيدًا مع الجريحة. وقبل سقوط القذيفة الثالثة أمسكه أحد الممرضين من يده وسحبه بالقوة إلى مكان أكثر أماناً، وسقطت قذائف أخرى، وعندها أيقن أنّ الاستمرار في العمل في المستشفى مستحيل.
يشير عراقي إلى أنّه في تلك الفترة لم يصل إلى العالم ما هو واقعي عن المجازر والانتهاكات، ولم تكن هناك فضائيات يومها، بل اقتصرت التغطية على المراسلين الصحافيين الذين ينقلون الأحداث مرتين في اليوم، ويتواصلون معهم عبر جهاز لاسلكي، خصوصاً الصحافيين الإيطاليين، وهم من اهتمّوا بواقع نقص الغذاء والمياه.
في 12 أغسطس/ آب 1976، أبلغ سكان المخيم أنّ هناك اتفاقاً لإخلاء المدنيين، وستأتي منظمة الصليب الأحمر وقوات الردع العربية لهذا الغرض، لكن، بعد الإخلاء فوجئ الفلسطينيون بمليشيا "الكتائب" أمامهم على باب المخيم. صفّوا الممرضين والممرضات وكان عددهم 14، وأعدموهم أمام عينيه، أما هو فنجا، فقط لأنّ أحد مقاتلي الكتائب تعرّف عليه، وقد كان جريحاً في أحد الأيام وعالجه عراقي بإجراء عملية في الصدر، فاستدعاه من بين المحكومين بالإعدام. لكن، بينما كان بعض المقاتلين ينوون إطلاق النار عليه من دون الإصغاء إلى زميلهم كلّمهم ضابط سوري من قوات الردع، كان عراقي قد أجرى له عملية بدوره، فأقنعهم باستثنائه من الإعدام. هكذا تحوّل من محكوم بالقتل إلى معتقل، وأجبر على المشي في طريق مليء بجثث من بينها لأطفال ونساء ومسنون. يقول: "المنظر كان مرعباً، وقد تعرّفت على كثير من هويات أصحاب الجثث، ممن عرفتهم أو عالجتهم". استمر اعتقاله حتى إجراء المفاوضات في ذلك اليوم، وأُفرج عنه في المساء، ليتوجه بعدها إلى بيروت الغربية.
نشر عراقي "يوميات طبيب في تل الزعتر" بالعربية والإنكليزية والبلغارية وسيترجم إلى اللغتين الألمانية والسويدية.
زار حيفا للمرة الأولى عام 2016، بالتزامن مع الذكرى الأربعين للمجزرة. يقول: "بعد أربعين عاماً من المجزرة زرت حيفا، فكان الناس متحمسين لمعرفة أخبار ما جرى في تل الزعتر على حقيقته، وهكذا أعطي القصة طابعاً وطنياً وإنسانياً بدلاً من السياسي، لأنّ السياسي يأتي ويذهب، لكنّ الوطن باقٍ. ولا أنسى مدينة بيروت التي قضيت فيها طفولتي وثورتي وودعتها بكلّ حزن".
بعد الثاني عشر من أغسطس/ آب 1976، لم يبقَ من أثر لمخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين في شمال شرق العاصمة اللبنانية بيروت. لكنّ الحصار والمجزرة اللذين قتلا الآلاف نجا منهما الطبيب يوسف عراقي، فبات شاهداً حياً على ما جرى هناك.
عاش عراقي لاجئاً في مخيم تل الزعتر وعمل في المستشفى الوحيد في المخيم، وشاهد خلال أيام الحصار آلاف اللاجئين الآتين للعلاج في ظلّ منع دخول الأدوات الطبية والأدوية إلى المخيم. وثّق عراقي الأحداث فقد اعتبر أنّ من واجبه كتابة يومياته كي لا تضيع الذاكرة الجماعية للمخيم ويضيع معها تاريخ ما حصل في تلّ الزعتر. في كتابه "يوميات طبيب في تل الزعتر" دوّن مقولة ذاكرة للمخيم يقول فيها: "مخيم فلسطيني في شرق بيروت، كان اسمه تل الزعتر، اسمه أسال الدموع في كلّ البيوت الفلسطينية، ورفعت عند سقوطه رايات الحداد في المخيمات الفلسطينية. كان تل الزعتر عنواناً كبيراً جاب العالم، وأصبح رمزاً للصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني".
يقول عراقي لـ"العربي الجديد" عن سبب تدوينه المباشر لأحداث المجزرة والحصار: "كلّ عائلة من الضحايا في المخيم فقدت وجودها على الأرض. لم يكونوا في حاجة إلى معونات تموينية كالتي قدمها البعض بعد المجزرة، بل كانوا يحتاجون إلى تأكيد وجودهم، ولهذا كتبت اليوميات، وكنت أول من كتب لحفظ ذاكرة أهل المخيم، لأنني لو لم أفعل ذلك لكانت القضية ضاعت".
عراقي من مواليد عام 1945 في مدينة حيفا الفلسطينية المحتلة، هجّر مع عائلته وهو في الثالثة من عمره إلى بيروت وتعلّم في سنوات طفولته في مدارس الـ"أونروا". بعد تخرّجه من الثانوية العامة عام 1966 درس الطبّ في موسكو ضمن منحة دراسية من منظمة التحرير وتخرج منها عام 1974، وعمل طبيباً في مستشفى مخيم تل الزعتر في فترة الحصار (1975 - 1976) وكان من الناجين القلة من الحصار والمجزرة.
أكمل عراقي عمله كعضو في المكتب التنفيذي للهلال الأحمر الفلسطيني في لبنان، ودرس اختصاص جراحة المسالك البولية عام 1980، وتمكن من الحصول على شهادة الدكتوراه من جامعة "هومبولت في برلين" عام 1986، وعمل محاضراً جامعياً في كلية الطب بجامعة "أوسلو" وأستاذاً مقيماً فيها عام 1988، ثم تقاعد عام 2013.
بدأت أحداث حصار المخيم في بداية يناير/ كانون الثاني عام 1976 عبر مليشيا "الكتائب اللبنانية". يقول عراقي عن تلك الفترة: "عرفنا ببدء الحصار التمويني على تل الزعتر عندما منعت قافلة كانت تحمل مواد تموينية ومواد طبية من الدخول إلى المخيم. ومع بدء الأهالي الشعور بمعاناة التجويع، حاولوا فك الحصار، فكانت معركة حرش ثابت التي حاولت التصدي للقوات التي تحاصر المخيم، ليحصل بعدها اتفاق على إدخال المواد التموينية والأدوية".
في أواخر يونيو/ حزيران 1976 اشتدت المعارك، فحاولت القوات الفلسطينية حماية المخيم متصدية لمحاولات "الكتائب" دخوله. اعتاد عراقي خلال تلك الفترة أن يترقب الساعات الأولى من الصباح بحذر شديد، لأنّ ذلك كان يعطيه فكرة عامة عمّا سيحدث في ذلك النهار في ظل القصف المتواصل. وهو ما يتيح له أن يتجهز مع زميله الطبيب عبد العزيز اللبدي (الذي نجا بدوره من المجزرة)، وهما الطبيبان الوحيدان في المخيم، مع الممرضين، لأيّ طارئ.
يذكر عراقي أنّ يوم الثلاثاء 22 يونيو، كان الأكثر قصفاً على منازل المخيم التي دمر معظمها. وفي صباح الخميس 24 يونيو بدأ الأهالي في المخيم يغادرون ما تبقى من الأبنية المهدمة من جرّاء القصف، إلى الأبنية المجاورة في منطقة رأس الدكوانة. في اليوم نفسه، لم يبقَ إلاّ المستشفى والملاجئ التي لا تتسع لإيواء جميع الأهالي، ووصل إلى المستشفى بعدها المقاتل "أبو جبال" مصاباً برصاصة قناص في صدره، وكانت الإصابة كبيرة وخطيرة، وكان في حالة صدمة نتيجة نزيف حاد. أجريت له العملية واستغرقت وقتاً طويلاً، وبعد إعطائه عدة وحدات من الدم استطاع إنقاذ حياته بالرغم من ضعف الإمكانات الطبية المتاحة.
مؤسس الهلال الأحمر الفلسطيني الطبيب فتحي عرفات (شقيق الزعيم ياسر عرفات) بين الطبيبين يوسف عراقي (إلى يساره) وعبد العزيز اللبدي (إلى يمينه) في تلّ الزعتر |
وفي اليوم نفسه أيضاً، سقطت قذيفة على غرفة الطوارئ في الطابق الأول من المستشفى، أحدثت فجوة كبيرة. ووصل إلى إلى الغرفة العديد من الإصابات بعدها. وبينما كان عراقي يفحص أحد المصابين، سقطت قذيفة قرب المبنى، فتطايرت الشظايا والغبار، حتى لم يعد يرى شيئاً أمامه. قبل لحظات من ذلك كان أهالي الجرحى والممرضون يحيطون به، وفجأة وجد نفسه وحيدًا مع الجريحة. وقبل سقوط القذيفة الثالثة أمسكه أحد الممرضين من يده وسحبه بالقوة إلى مكان أكثر أماناً، وسقطت قذائف أخرى، وعندها أيقن أنّ الاستمرار في العمل في المستشفى مستحيل.
يشير عراقي إلى أنّه في تلك الفترة لم يصل إلى العالم ما هو واقعي عن المجازر والانتهاكات، ولم تكن هناك فضائيات يومها، بل اقتصرت التغطية على المراسلين الصحافيين الذين ينقلون الأحداث مرتين في اليوم، ويتواصلون معهم عبر جهاز لاسلكي، خصوصاً الصحافيين الإيطاليين، وهم من اهتمّوا بواقع نقص الغذاء والمياه.
في 12 أغسطس/ آب 1976، أبلغ سكان المخيم أنّ هناك اتفاقاً لإخلاء المدنيين، وستأتي منظمة الصليب الأحمر وقوات الردع العربية لهذا الغرض، لكن، بعد الإخلاء فوجئ الفلسطينيون بمليشيا "الكتائب" أمامهم على باب المخيم. صفّوا الممرضين والممرضات وكان عددهم 14، وأعدموهم أمام عينيه، أما هو فنجا، فقط لأنّ أحد مقاتلي الكتائب تعرّف عليه، وقد كان جريحاً في أحد الأيام وعالجه عراقي بإجراء عملية في الصدر، فاستدعاه من بين المحكومين بالإعدام. لكن، بينما كان بعض المقاتلين ينوون إطلاق النار عليه من دون الإصغاء إلى زميلهم كلّمهم ضابط سوري من قوات الردع، كان عراقي قد أجرى له عملية بدوره، فأقنعهم باستثنائه من الإعدام. هكذا تحوّل من محكوم بالقتل إلى معتقل، وأجبر على المشي في طريق مليء بجثث من بينها لأطفال ونساء ومسنون. يقول: "المنظر كان مرعباً، وقد تعرّفت على كثير من هويات أصحاب الجثث، ممن عرفتهم أو عالجتهم". استمر اعتقاله حتى إجراء المفاوضات في ذلك اليوم، وأُفرج عنه في المساء، ليتوجه بعدها إلى بيروت الغربية.
نشر عراقي "يوميات طبيب في تل الزعتر" بالعربية والإنكليزية والبلغارية وسيترجم إلى اللغتين الألمانية والسويدية.
زار حيفا للمرة الأولى عام 2016، بالتزامن مع الذكرى الأربعين للمجزرة. يقول: "بعد أربعين عاماً من المجزرة زرت حيفا، فكان الناس متحمسين لمعرفة أخبار ما جرى في تل الزعتر على حقيقته، وهكذا أعطي القصة طابعاً وطنياً وإنسانياً بدلاً من السياسي، لأنّ السياسي يأتي ويذهب، لكنّ الوطن باقٍ. ولا أنسى مدينة بيروت التي قضيت فيها طفولتي وثورتي وودعتها بكلّ حزن".