ينظر الدنماركيّون بقلق إلى زيادة تغيّب التلاميذ عن المدارس. ويحاولون، من خلال العمل الرسمي والتعاون بين مؤسسات المجتمع المدني، إيجاد وسائل ومبادرات في البلديات الـ 98، من أجل تحقيق نظام في البيئة المدرسية، خصوصاً بين الصغار. وتأتي تلك المحاولات في أعقاب تغيب نحو 14 في المائة من تلاميذ المرحلة الأساسية لأكثر من 20 يوماً خلال العام الدراسي 2016 و2017، واستمرار هذا التغيب خلال العام الماضي 2018، بما يصل إلى نحو 95 ألف تلميذ من الأطفال والناشئين، بحسب وزارة التعليم الدنماركية.
آخر تلك المحاولات تحققت من خلال ما يطلق عليه "شراكة جديدة" في الدنمارك بين مؤسستي "أوضاع الأطفال"، المعنية بحقوق الطفل ومشاكله في البلاد، وبين "صندوق إيغمونت" الذي تأسس في عام 1920، بناء على وصية الناشر الدنماركي إيغمونت بيترسن، وتخصص سنوياً تبرعات بـ 100 مليون كرونه لمعرفة أوضاع الأطفال والشباب. التعاون بين هاتين المؤسستين ينطلق من أن التغيب بين الصغار إنما هو نتيجة مشاكل اجتماعية في منازلهم.
وقبل أيام، قال مدير مؤسسة "أوضاع الطفل" راسموس كيلدال، بمناسبة انطلاق المشروع، إنه على عكس الماضي، حين كان ينظر إلى التغيب بالرغبة في التهرّب من الدراسة، تبين أن تغيّب معظم الأطفال يرتبط بانخفاض مستوى الرعاية في منازلهم، ما يؤدي إلى مشاكل نفسية كالقلق والتفكير في الانتحار، عدا عن انتشار التنمّر في المدارس، وعدم إشراك بعض الأطفال في مجموعات. وعادة ما تخصّص مؤسسة أوضاع الأطفال خطوط هاتف ساخنة لتلاميذ المدارس، تسمح لهم بالاتصال للتعبير عن مشاكلهم وطلب النصيحة في أي وقت، ما يساهم بإنقاذ بعض الأطفال الذي يعيشون واقعاً صعباً، كإدمان الوالدين أو الإهمال التربوي أو عدم الاهتمام بغذاء أطفالهم.
ويسعى المشروع الجديد إلى العمل على مستوى الدنمارك خلال الأعوام الخمسة المقبلة، من خلال الاعتماد على "إشراك مهنيين ومحترفين لمساعدة الأطفال والآباء، وتقديم توصيات وإرشادات للبلديات والمدارس بصيغ إلزامية لتنظيم التلاميذ في صفوفهم الدراسية"، بحسب بنود الشراكة. ويركز المبادرون على أن انتظام الأطفال في المدارس هو لمصلحتهم أساساً وليس من أجل المدارس أو الإحصائيات والقوانين. كذلك، يرى هؤلاء أهميّة كبيرة في تعاون ومشاركة الأهل، ومساعدتهم على التواصل بشكل أفضل مع أطفالهم، والحديث معهم عن أسباب الغياب من الناحيتين الاجتماعية والنفسية بهدف المساعدة. بالتالي، هناك تركيز على الأشخاص الفاعلين في حياة الطفل، أي المدارس والخدمات الاجتماعية والآباء، ضمن شبكة عمل واحدة، لمعرفة التحديات الرئيسية والحلول الممكنة.
مبادرة الحدّ من التغيّب المدرسي والمشاكل الاجتماعية التي تدفع التلاميذ إلى ذلك، تأتي على الرغم من غياب أية استراتيجية دنماركية شاملة أو مبادئ توجيهية. وترى مؤسسة "أوضاع الأطفال" أن التغيب الكبير خلال المرحلة الابتدائية "سينعكس بصورة سلبية لاحقاً على حياة هذه الفئة. لذلك، يجب أن يكون هناك تدخل مبكّر إذا ما أردنا أوضاعاً أفضل لمستقبل الأجيال في بلدنا". وتشير أبحاث المؤسسة، بحسب كيلدال، إلى أنه "لسوء الحظ، فإن التغيب يرتفع لدى الفئات الاجتماعية الأكثر ضعفاً. وفي ظل ضعف تدخل البلديات، فإنّ تدخلنا هو من أجل هؤلاء الأطفال الضعفاء".
ويذكر أن المؤسستين اتفقتا على تخصيص نحو 40 مليون كرونه دنماركية لتطبيق خطتهما، وتسعيان للوصول إلى صفر غياب عام 2030، لدى هذه الفئة تحديداً. وتستند خطة العمل إلى مجموعة من الخطوات تبدأ أولاً بجمع آراء الأطفال أنفسهم عن غيابهم والمسببات التي يرونها أساسية، إضافة إلى فتح نقاش مع هؤلاء التلاميذ وتقديم نصائح وإرشادات للتغلب على الغياب. وتحرص المبادرة على مساعدة أولياء الأمور من خلال متخصّصين تربويين، والتدخل المبكر والوقائي بالتعاون مع مختلف الأطراف، بمن فيهم العاملون في الحقل الاجتماعي في البلديات التي يقيم في نطاقها هؤلاء الأطفال. وتشير مديرة صندوق إيغمونت هنرييتا كرستيانسن، إلى أن التغيب المستمر قد "يؤدي إلى عدم إتمام التلاميذ دراستهم في مرحلة لاحقة من حياتهم".
وفي مدينة أودر الدنماركية، القريبة من آرهوس (وسط غرب الدنمارك)، بدأ العمل مع بداية عام 2019 للتغلب على إشكالية "الغياب المقلق"، من خلال التعاون مع مركز العلاج النفسي للأطفال والشبيبة وقسم علم النفس في جامعة آرهوس، ومركز المشورة التربوية - النفسية، وبلدية المدينة، لتقديم عروض للأطفال الأكثر تغيباً تحت عنوان "باك تو سكول" (Back2School).
ويستهدف المشروع الأطفال من الصف التمهيدي وحتى التاسع، الذين سجلوا غياباً بنسبة 10 في المائة خلال الأشهر الثلاثة الماضية. ويسعى المشروع إلى التغلب على أسباب القلق وأوضاع الأسرة والحالة النفسية، ليكون التحليل والعلاج النفسي جزءاً أساسياً في المسار.