بالرغم من السنّ، تتمتع بروح الشباب، ولا تبالي بتعب يتطلبه عملها منذ عقود في الحفاظ على حرفة الخوص الفلسطينية التراثية... هي فاطمة اللحام من غزة
في محلة المواصي، بمدينة خان يونس، جنوبي قطاع غزة الفلسطيني المحاصر، تعيش فاطمة اللحام (72 عاماً) وتحترف صنع أدوات خوص النخيل في منزلها المتواضع، منذ 55 عاماً. وهي أدوات مطبخية ومنزلية متعددة الاستخدامات، كما أنّ من بينها أدوات زينة.
ورثت هذه الحرفة من أهلها وأجدادها ممن يعود عهدهم بها إلى أيام السلطنة العثمانية، إذ كانت الأسرة تعيش في منطقة قلعة برقوق الأثرية في خان يونس، وتعمل في العديد من الحرف التقليدية. وبينما اشتهرت نساء الأسرة بصنع الأدوات من خوص النخيل، أي أوراق السعف، لم يبقَ غير فاطمة اليوم متمسكة بهذه الحرفة، من بين جميع نسائها.
تعتبر صناعة الأدوات من خوص النخيل من الصناعات الفلسطينية القديمة التي كانت القبائل البدوية في جنوب فلسطين التاريخية تشتهر بها، خصوصاً في النقب. كذلك، كان الفلاحون الفلسطينيون في بعض مناطق الوسط يحترفونها كما تشير إلى ذلك اللحام. وهي حرفة تعتمد بشكل أساسي على أوراق السعف وعشبة الحلفاء.
تحصل اللحام على خوص النخيل من المنطقة التي تعيش فيها، إذ هناك كثير من الأشجار. تختار الكمية بحسب الأداة المطلوب صنعها. وبعد تحديدها تبدأ بحياكة الخوص حول سلك حديدي بالاستعانة بإبرة الخياطة الكبيرة، وبعض الخيوط القوية. وتلون بعض الخوص قبل بدء العمل بحسب الشكل النهائي المطلوب.
تصنع اللحام أدوات عديدة، مثل الأواني، والصواني، والكؤوس، والعلاّقات، ومصبات القهوة، وإطارات الصور، وأوعية الأواني الحديدية التي تحمي الإناء من الحرارة الخارجية، وتتميز بتحمل درجات الحرارة، كما تمنع انكسار الأواني الفخارية، علماً أنّ جميع أدوات الخوص خفيفة الوزن، وصديقة للبيئة لأنّها لا تحتوي على مواد مثل البلاستيك وغيره.
تقول اللحام لـ"العربي الجديد": "بيع أدوات الخوص في الأسواق بات قليلاً في أيامنا هذه، فالأسواق مليئة بالمنتجات الصينية والتركية، وكثيرون يشترون الأرخص، خصوصاً الجيل الجديد الذي لا يعرف قيمة الخوص جيداً، لكن هناك فئة قليلة من الناس الذين يأتون إليّ من مناطق كثيرة في قطاع غزة لشرائها ووضعها ضمن زينة المنزل".
تعلمت اللحام صنع الخوص، في مراهقتها، من والدتها، مريم اللحام، التي توفيت قبل 40 عاماً. الوالدة كانت من أهم النساء اللواتي يصنعن أدوات الخوص بإتقان، وعلى مستوى عالٍ جداً، كما تقول اللحام، فقد كان تجار الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، والتجار المصريون يأتون إليها لشراء منتجاتها، التي كانت تساعدها فيها.
تضيف اللحام: "كانت أمي تحثّ الكثير من سيدات الحيّ في خان يونس على المحافظة على طرق إعداد المأكولات التراثية وأساليب إعداد وصنع أدوات القماش والجلد الطبيعي، وتطلب منهن أن يعلّمن بناتهن، حتى تحافظ الأخيرات على هذا الموروث الفلسطيني الوطني. لكن الكثيرات منهن لم يستجبن لها بذريعة ترك الحرية للبنات الصغيرات في اختيار ما يردن تعلمه، لكن لم تتعلم بناتهن شيئاً. أما أنا، وبفضل أمي، فقد عملت طوال حياتي في هذه الحرفة، ووفرت دخلاً دائماً لأسرتي، إذ سترت نفسي من الجوع والفقر".
تعيش اللحام في ظروف صعبة، مع زوجها في منزل متهالك بمنطقة المواصي منذ 45 عاماً، وتقيم بالقرب منها مئات من الأسر الفقيرة التي تسكن في بيوت مهترئة مكونة من صفائح معدنية، ومنها أسر تعرضت للتهجير أكثر من مرة كونها تقيم في أراضٍ حكومية.
تسوّق اللحام، في كثير من الأحيان، منتجاتها داخل معارض وطنية تراثية تنظمها مؤسسات المجتمع المدني، ومعارض تشجيع المرأة العاملة، وتجد في تلك المعارض رزقاً جيداً لها، فتعرض للحاضرين تلك الصناعة مع تبيان قيمتها الفلسطينية التاريخية. تضيف: "لديّ 30 حفيداً، من أبنائي الستة المتزوجين جميعهم. يحبون التجمع حولي دائماً ومشاهدتي في صناعتها، وأنا أحب هذا الشعور، وأريد أن أحافظ على هذه الصناعة لأورثها لإحدى بناتي الخمس، علماً أنّ ابني فريد البالغ من العمر 31 عاماً هو الوحيد الذي تعلمها مني حتى الآن".
وكان زوج فاطمة، داوود اللحام (73 عاماً) محترفاُ في صنع السجاد، لكنّه بعد الانتفاضة الثانية عام 2000 توقف عن العمل في المصنع الواقع في الداخل الفلسطيني، وبات عاطلاً من العمل، ويعتمد على دخل زوجته. يقول اللحام لـ"العربي الجديد": "نعيش في ظروف صعبة في منطقتنا، لكنّ هناك جهدا كبيرا من زوجتي للحفاظ على هذا الموروث الشعبي، وهي بذلك تمثل المرأة الفلسطينية الكادحة التي تحافظ على وطنها وتاريخه وفي الوقت نفسه تصون بيتها".