الانتحار أمر يتكرر في المجتمعات كافة، وقد صار يُصنَّف بحسب أسبابه. اليوم، ثمّة ما يقلق فرنسا في هذا السياق وهو الانتحار في أماكن العمل.
لم يعُد الانتحار في الشركات الفرنسية سرّاً على أحد، منذ رُفعت أمام القضاء الفرنسي قضايا عدّة ذات صلة وطُرحت على نطاق واسع في الإعلام المحلّي. لعلّ آخر القضايا هي قضية موظفي شركة "فرانس تيليكوم" للاتصالات (هي اليوم شركة "أورانج")، التي يُحاكَم فيها مسؤولون في الشركة على خلفية 19 انتحاراً و12 محاولة انتحار وثماني حالات اكتئاب شديدة وضغط نفسي، أي ما مجموعه 39 ضحية ما بين عامَي 2007 و2010. يُذكر أنّ ذلك الرقم لا يختصر كلّ الحالات، فقد سُجّل في عامَي 2007 و2008 وحدهما 35 انتحاراً. وقد أتى ذلك بعد رغبة المؤسسة في التخلص من 22 ألف موظف من بين 110 آلاف، بالإضافة إلى 10 آلاف تبديل/ نقل في الوظائف، مع كلّ ما رافقها من ضغوط وتحرّش معنوي. اللافت أنّ إدارة "فرانس تيليكوم" لم تأخذ الأمر على محمل الجد، فتحدّث الرئيس - المدير العام ديدييه لومبار في حينه، عن "موضة الانتحار"، وصرّح بأنّه "يجب وضع حدّ لموضة الانتحار"، متهماً وسائل الإعلام بأداء دور سلبي في الأمر إذ قال: "عندما تتحدّثون عن الانتحار فأنتم تضاعفونه".
والإقدام على الانتحار يعود إلى أسباب مختلفة، كذلك الأمر بالنسبة إلى محاولة الانتحار، منها ما يتعلّق بالضغوط المرتبطة بالعمل أو التسريح منه وما إلى ذلك. ويؤدّي الأطباء، وخصوصاً المتخصصين في طبّ العمل، دوراً كبيراً في اكتشاف النزوع إلى الانتحار، ومن ثمّ إعلام المؤسسات المعنية بالأمر من أجل تفاديها. وتتحدّث المتخصصة في طبّ العمل، مونيك فرايس غيغليني، التي تابعت قضيّة "فرانس تيليكوم" في حينه، في شهادتها أمام المحكمة، عن موظفين "كسرتهم" عمليات التبديل/ النقل الإلزامي وإعادة التنظيم الذي عرفه فرع الشركة في مدينة غرونوبل ما بين عامَي 2007 و2010. وتقرّ الطبيبة بأنّ الوضع لم يكن مثالياً قبل تلك الفترة، وتكشف أنه منذ 2007 بدأ الموظفون يخبرون اضطرابات غير عادية، فازدادت الاستشارات الطبية بصورة كبيرة. تضيف الطبيبة بأنّها صارت تكشف اضطرابات في النوم وفي الشهية، بالإضافة إلى أشكال من الإدمان يعاني منها هؤلاء الموظفون.
على الرغم من تحذيرات فرايس غيغليني، فإنّ أيّ إجراءات لم تُتّخَذ للمعالجة، وتتحدّث عن "عنف لا يحتمل". وتذكر ردّ أحد كادرات الشركة حين عرضت عليه الأمر، فهو قال حينها: "حين نحرّك شجرة ما بقوة، تتساقط الثمار الناضجة أو الفاسدة، وهذا ما يحدث في فرانس تيليكوم". وتؤكد الطبيبة في شهادتها أنّها استطاعت إنقاذ عدد من الموظفين من الانتحار في اللحظة الأخيرة، مشيرة إلى حالة تقنيّ تمّ تحويله إلى بائع، الأمر الذي تسبّب في "انهياره" وفي "فقدانه شعر رأسه في عشرة أيام بشكل كليّ". يُذكر أنّ إدارة الشركة، على الرغم من التحذيرات التي كانت تصلها، راحت تهوّن ما يحدث، بل تتّهم بعض المرضى بأنّهم "لا يعانون من أيّ خطب، وأنّهم لا يفعلون سوى البكاء أمام أطباء العمل".
ما حدث في "فرانس تيليكوم" ليس قضية معزولة في فرنسا، فالظاهرة عرفتها مؤسسات وقطاعات أخرى منذ أعوام. وتفيد إحصاءات الوكالة الوطنية للصحة العامة في فرنسا في تقرير عام 2015، بأنّ عدد الأشخاص الذين أقدموا على الانتحار بلغ 8948 شخصاً، علماً أنّ حالات الانتحار في فرنسا تُعَدّ من بين الأكثر ارتفاعاً في أوروبا، وتسبقها بلدان أوروبا الشرقية وفنلندا وبلجيكا. وفي عام 2017، اعترف 4.7 في المائة من الفرنسيين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 عاماً و75، بأنّ فكرة الانتحار راودتهم، في حين أنّ 7.2 في المائة فكّروا في الانتحار في حياتهم.
في تقرير الوكالة الوطنية للصحة العامة المذكور آنفاً، يقرّ البروفسور بيير توما، وهو متخصص في التحليل النفسي، بأنّ مخاطر الانتحار تزداد بجديّة في محيط الشخص المقدم على ذلك، أي وسط عائلته أو بين رفاقه في المدرسة أو زملائه في العمل. ويشرح أنّ انتحاراً ما، بحسب ما يُظنّ، يجعل سبعة مقرّبين (معدّل وسط) في حداد، ويؤثّر كذلك بقوة على أكثر من 20 شخصاً.
وإذا كانت معدلات الانتحار بين العاطلين من العمل هي الأكثر ارتفاعاً في فرنسا، فإنّ شروط العمل الصعبة في قطاعات أخرى مختلفة مع ما يصاحبها من تحرّش معنوي، تساهم في الانتحار كذلك. من جهتها، تعرف المؤسسات الصحية حالات انتحار كثيرة، بسبب الصعوبات التي يعاني منها الطاقم الطبّي من ممرضين وأطباء. كذلك الأمر بالنسبة إلى العاملين في دور العجزة التي تعرف ظروفاً بالغة الصعوبة يحذّر الأطباء من نتائجها، علماً أنّ الإنهاك يدفع موظفين كثيرين إلى التوقف عن العمل. وثمّة آخرون يغادرون أماكن عملهم من دون إبلاغ أحد، في حين يستمرّ البعض في أداء مهامّهم وسط إجهاد واستنزاف داخلي. والانتحار ينتشر كذلك بين المزارعين، وتفيد البيانات ذات الصلة بأنّ مزارعاً فرنسياً واحداً يقدم على الانتحار كل يومين. ويؤدّي ذلك إلى جعل المزارعين في مقدّمة الفئات المهنية لجهة حالات الانتحار. وعلى الرغم من أنّ الأمر ليس مستجداً، فإنّ وسائل الإعلام لم تتلقفها إلا مع أزمة الحليب بالبلاد في نهاية الألفية الثانية.
ثمّة متخصصون في الطب راحوا يصنّفون الانتحار في أماكن العمل كـ"وباء" في كل القطاعات. وقد أتت قضية "فرانس تيليكوم" لتمنح الأمر بعض الوضوح ويحوّلها إلى قضية وطنية. ثمّ تأتي حالات الانتحار بين عناصر قوى الأمن، لتمنح الأمر بُعداً مأسوياً إضافياً، وخصوصاً أنّ هذا القطاع حساس ووسائل إنهاء الحياة فيه، أي الأسلحة، متوفّرة بسهولة. منذ بداية العام الجاري، بلغت حالات الانتحار 31 حالة في سلك الشرطة، في حين سُجّلت 35 حالة في عام 2018، و51 في عام 2017. ويعاني رجال الشرطة من إنهاك شديد، بسبب كثرة العمل وهزالة الرواتب في ظروف لا تخلو من المخاطر، ولا سيّما الإصابات في خلال الصدامات وغيرها، مثلما حدث منذ أكثر من ستة أشهر في حراك "السترات الصفراء". وقد دفعت المستويات غير المسبوقة في الانتحار إلى إنشاء خلية إنذار ووقاية من الانتحار. وفي السياق، وُزّع منشور داخلي على أفراد الشرطة ينصّ على "تعبئة كبرى ضد الانتحار"، بالإضافة إلى تنظيم نشاطات على هامش العمل منها نزهات جماعية وحفلات شواء ونشاطات رياضية لأفراد الشرطة وعائلاتهم.
تفيد بيانات الوكالة الوطنية للصحة العامة في فرنسا بأنّ عدد الذين خضعوا للعلاج بسبب محاولتهم الانتحار انخفض في البلاد، ما بين عامَي 2008 و2017. وبعدما كان العدد يتخطّى 100 ألف شخص تراجع إلى ما دون 89 ألفاً. لكنّ الانتحار ما زال يقلق السلطات بأعلى مستوياتها، خصوصاً أنّا يكلّف قطاعَي الصحة العامة والاقتصاد الفرنسي غالياً. من جهة أخرى، تكشف بيانات الوكالة أنّ الفتيات المراهقات (15 - 19 عاماً) هنّ الأكثر عرضة للانتحار مع 41 حالة في المتوسط من بين كل 10 آلاف نسمة، ثم يأتي الرجال فوق 50 عاماً. وهو ما تعيده الوكالة إلى أسباب عدّة منها فقدان العمل أو التقاعد المبكر. كذلك، تبيّن أرقام الوكالة أنّ 3.8 في المائة من الذين يعملون تراودهم أفكار انتحار، وأنّ النساء أكثر رغبة في الانتحار من الرجال (9.9 في المائة في مقابل 4.4 في المائة ما بين عامَي 2000 و2017). ويُشار إلى أنّ الخطورة تكمن في واقع أنّ نصف الذين تراودهم أفكار انتحارية يبوحون بالأمر.