يتلهّى الناس بأخبار الجرائم التي تُرتكب في الداخل الفلسطيني، مهملين ما يؤدّي إليها. قد يتحدّثون عن بواعث مختلفة، لكنّهم قد يغفلون الأساس.
ارتفاع جرائم القتل في المجتمع الفلسطيني بشكل مضاعف ثلاث مرّات مقارنة بنسبة الفلسطينيين في الداخل، له مسبّب آخر (غير المسببات المتداولة) يحذر كثيرون من الحديث عنه أو الإشارة إليه، على الرغم من أنّ الإشارة إليه والتحذير من تداعياته كانا يحصلان في الماضي، عند ظهوره للمرّة الأولى بشكل كبير قبل أكثر من عشرين عاماً. المسبب هو عملاء الاحتلال الذين بدأوا بشكل كبير وظاهر للعيان ينتقلون إلى أراضي الداخل الفلسطيني بعد الانتفاضة الأولى، هرباً من جرائمهم ضدّ أبناء شعبهم في الضفة الغربية وقطاع غزة وتعاونهم مع الاحتلال.
وفقاً للمعطيات الرسمية التي يقرّ بها بحث للأستاذ مناحيم هوفيننج في الجامعة العبرية، تحت عنوان "ثمن المعلومات"، فإنّ حكومة (إسحاق) رابين، ومنذ عام 1994 قبيل تسليم قطاع غزة وأريحا إلى منظمة التحرير بموجب اتفاق أوسلو، كانت أقرّت وعلى وجه السرعة نقل ما لا يقلّ عن 1400 عائلة عميل للاحتلال إلى أراضي الداخل الفلسطيني ووزّعتهم على القرى والبلدات العربية، الجليل والمثلث والنقب، كذلك على مدن الساحل، اللد والرملة ويافا وعكا. لكنّ تلك العمليات ووجهت مباشرة بمعارضة شديدة من المجتمع الفلسطيني في الداخل الذي لفظ العملاء.
رُصد أوّل رفض لمساعي التوطين هذه في إحدى جلسات الكنيست، عبر اقتراح جدول أعمال طرحه النائب العربي آنذاك عبد الوهاب دراوشة في 30 نوفمبر/ تشرين 1994 استعرض فيه، بعد تأكيد رفض استيعاب العملاء في الداخل، المخاطر التي يحملها هؤلاء معهم إلى المجتمع الفلسطيني، بما في ذلك الأحياء الفلسطينية في اللد والرملة ويافا. وبحسب محاضر جلسة الكنيست المذكورة، فقد شخّص دراوشة الأمر بوضوح: "هؤلاء أشخاص مسلحون، يهددون الوضع الاجتماعي في البلدات العربية، علينا أن نذكر أنّ مبنى المجتمعات في البلدات العربية هو حمائلي، لعائلات وحمائل تعيش في بلداتها ولها علاقات صداقة وجوار وقرابة دم، ومن الصعب جداً بل من غير المقبول استيعاب وقبول أناس جاؤوا بعد أن خانوا شعبهم للتوطن في البلدات العربية. انظروا ماذا حدث في الناصرة مؤخراً، فسكن هؤلاء في البلدات العربية في الجليل يؤدي إلى حالة غليان وتوتر سياسي واجتماعي وسيؤدي إلى التطرف... تريدون حل مشاكلهم قوموا بذلك ولكن ليس على حساب الوسط العربي". وبعد ذلك بعام، عاد الكنيست لمناقشة مشكلة المتعاونين الذين كانوا قد أدخلوا إلى اللد والرملة ويافا، بعدما رفضهم المجتمع الفلسطيني، وأيضاً بعد أن تذمّر منهم الإسرائيليون أنفسهم.
هذه البدايات كانت مقدّمة لما سيأتي لاحقاً من ضغوط حكومية على السلطات المحلية ورؤسائها العرب، مرفقة بوعود بزيادة الميزانيات، ولا سيّما الاجتماعية والتعليمية منها، في مقابل استيعاب أبناء العملاء في جهاز التعليم العربي، فيما كانت حرارة رفض العملاء ما زالت متواصلة وبلغت أوجها في أحداث دامية في باقة الغربية، عشيّة الانتخابات العامة للكنيست عام 1999، حينما هاجم الأهالي في القرية، بعد خلاف بين عناصر إجرامية من خارج البلدة وبين مواطنين في القرية، منازل عائلة الإجرام وبيوتاً كان استأجرها عملاء سابقون من الضفة الغربية. وقد أسفرت الأحداث عن مصرع شابَين من باقة الغربية وحرق بيوت العملاء وطردهم من البلدة.
لكنّ تلك المواجهات مع ما تبعها من نزاعات مشابهة في القرى والبلدات العربية، إلى جانب فشل حكومة الاحتلال في توطين العملاء بشكل منهجي، دفعت الحكومة إلى تغيير سياساتها، وخصوصاً بعد أن نظّم مجلس قرى زيمر برئاسة الدكتور فتحي دقة، في المثلث المحاذي للخط الأخضر، في مارس/ آذار 2001، مهرجاناً شعبياً كبيراً ضدّ مخططات توطين العملاء في قرى زيمر، شارك فيه بعض رؤساء السلطات المحلية العربية والنائبان في الكنيست، آنذاك، المفكّر عزمي بشارة والدكتور حنا سويد والشيخ رائد صلاح. يُذكر أنّ الحكومة اتجهت إلى أسلوب جديد هو ترك مسألة التسلل إلى البلدات العربية، بشكل فردي للعملاء، عبر دفع مبالغ عالية لمن يقبل تأجيرهم بيوتاً، أو حتى بيع تلك البيوت. وفي لحظة إتمام ذلك، كان العميل، وقد حصل سابقاً على مكانة مقيم أو بطاقة هوية إسرائيلية، يصير مواطناً ولا يمكن للسلطة المحلية التعرّض له. ويكشف الدكتور فتحي دقة لـ"العربي الجديد"، أنّ "المهرجان نظّم (حينها) بتنسيق مع المكتب السياسي لحزب التجمّع الوطني"، مشيراً إلى أنّه تعرّض شخصياً "لتحقيقات من جهاز الشاباك الإسرائيلي (الاستخبارات العامة)، ولضغوط بهدف إلغاء المهرجان وعدم تنظيمه".
منتصف عام 2005، كان عدد المتعاونين قد فاق ثلاثة آلاف عميل، لكنّهم كانوا موزّعين في القرى والبلدات العربية سراً، وأحياناً تم تغيير هويّاتهم وتفاصيلهم الرسمية. وفي خلال تلك السنوات، كان هؤلاء مع ما جلبوه من سلاح معهم (مرخص من الدولة لحمايتهم) قد بدأوا بالانخراط على هوامش المجتمع العربي، وأقاموا بسهولة علاقات تعاون مع عناصر الإجرام وتجّار السلاح والمخدرات، وسط محاولات للابتعاد عن افتعال مشكلات أو نزاعات مع أهالي البلدات الأصليين. لكنّ هذا الأمر لم يدم طويلاً وازدادت الشجارات والنزاعات، فيما كانوا يحظون في حالات كثيرة بغضّ نظر من قبل شرطة الاحتلال، حتى عندما كان السلاح يضبط معهم.
وعلى الرغم من ارتفاع معدلات الجريمة في هذا السياق، فإنّ الإشارة إلى هوية العميل حتى في سياق التغطية الإخبارية في وسائل الإعلام، كانت تتمّ عبر عملية تضليل، من خلال الإشارة مثلاً إلى مصرع مواطن من أم الفحم أو جت أو حيفا أو الناصرة أو الجديدة المكر أو اللد، اعتماداً على ما هو مسجّل في بطاقته الإسرائيلية الرسمية، ليتضّح لاحقاً أنّه قد يكون من سكان تلك البلدات غير أنّه من الذين نُقلوا على يد قوات الاحتلال بعد اتفاق أوسلو ودخول السلطة الفلسطينية، أو بعد الانتفاضة الثانية.
وقد أدّى هؤلاء دوراً في جلب السلاح إلى المجتمع الفلسطيني في الداخل، لكنّ مؤسسات الدولة كانت تتغاضى عن نشاطهم، ما دام ذلك يعفيها من عمليات العناية بهم، وخصوصاً أنّ قسماً منهم وجد نفسه في حالة من الفقر الشديد والرفض الاجتماعي، الأمر الذي عمّق تورّطه في عالم الإجرام. وقد سجّلت الصحافية مقبولة نصار، من عرابة، أوّل تحقيق جديّ معلن عن دور هؤلاء في الجريمة، وذلك من خلال تقرير خاص نشرته عام 2015 في صحيفة "سيحاه ميكوميت" العبرية، أبرزت فيه جريمتَين: الأولى قتل خليل محروم صاحب بقالة من حيفا على يد عميل من الضفة الغربية عام 2016، والثانية جريمة قتل الفتى محروس زبيدات من حيفا كذلك. وسبقت ذلك، بحسب تحقيق نصار نفسه، جريمة قتل الشاب فهمي كبها من قرية أم القطف من قبل عملاء بعد أن رفض أهالي أم القطف المحاذية للخط الأخضر، قيام سلطات الاحتلال بتوزيع قسائم بناءً على عملاء جُلبوا من الضفة الغربية وغزة بعد انسحاب الاحتلال من قطاع غزة، وفق خطّة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون.
هاتان الجريمتان ليستا الوحيدتين، فقد تبعتهما جرائم أخرى، ولم يعد ممكناً اليوم الوصول إليها عبر الإحصاءات الرسمية، لأنّ الضحايا والفاعلين في حال الوصول إليهم يظهرون كمواطني دولة إسرائيل. ومع تغيير معطياتهم وتفاصيلهم الشخصية، في حالة العملاء، تصير المهمة شبه مستحيلة. مع ذلك، فإنّ تداعيات توطين هؤلاء العملاء، بدأت تنتقل إلى الجيل الثاني من الأبناء. ويشكو كثيرون في قرى وبلدات مختلفة، ولا سيّما بلدات المثلث المحاذية للخط الأخضر، التي تمتاز بفعل قربها الجغرافي من الضفة الغربية، بعلاقات نسب ومصاهرة مع قرى داخل الضفة الغربية، قبل النكبة وبعد الاحتلال، من أنّ مجموعات من أبناء العملاء الذين، وبعد أكثر من عشرين عاماً على دخول أهاليهم وتوطنهم في تلك البلدات، راحوا ينظّمون أنفسهم في شبكات علاقات اجتماعية داخل المدارس على أساس مسقط رأس أهاليهم، ويشكّلون ما يشبه العصابات داخل المدارس. يُذكر أنّ نسبة هؤلاء، بحسب معلومات حصلت عليها "العربي الجديد" من مسؤولين سابقين في سلطات محلية في المثلث وفي جهاز التعليم، تصل في بعض مدارس تلك القرى إلى نحو 20 في المائة، ويشكّل هؤلاء النسبة العليا بفعل ظروف اجتماعية واقتصادية من بين مجموعات الأحداث الذين يعانون مشكلات سلوكية. ويكشف رئيس مجلس سابق من قرى المثلث، لـ"العربي الجديد"، وقد فضّل عدم الكشف عن هويته، أنه تعرّض لضغوط هائلة في الماضي بهدف القبول بتسجيل أبناء عملاء لا يعيشون في القرية في مدارس قريته، مثلما تعرّض آخرون لمثل تلك الضغوط.
من جهته، يقول مدير قسم خدمات رفاه اجتماعي في سلطة محلية في الداخل لـ"العربي الجديد"، وقد فضّل عدم الكشف عن هويته، إنّ "الأوضاع الاقتصادية الصعبة لهؤلاء العملاء، وانعكاس مشاعر الغربة والاغتراب عند أبنائهم في محيط المدارس والمجتمع، تزيد من حالات الإحباط لدرجة النقمة على المجتمع، وصولاً إلى حدّ التباهي بالخدمات التي قدّموها للاحتلال. بالتالي فإنّ السلطة المحلية مجبرة على تقديم الخدمات لهم، ومن يرفض يكُن عقابه شديداً". يضيف أنّه "لا يهمهم إعلان اعتمادهم على دعم ضباط الشاباك والشرطة لهم في حال وقعوا في مشكلات مع أهالي القرى والبلدات العربية".
أخيراً، فإنّ أخطر ما يمثّله هذا البعد هو بدء تبلور مجموعات في القرى، التي يزيد عددهم فيها على مائتَي شخص يملكون حقّ اقتراع للسلطة المحلية، الأمر الذي يحوّلهم إلى قوّة مؤثرة في الانتخابات المحلية العائلية عموماً، التي يمكن لعشرات الأصوات فقط حسم هوية الرئيس المقبل فيها.