كما يقول المثل اللبناني "خبّي العسل بجرارو حتى تغلى أسعارو" يتعامل البائعون في "سوق الأنتيكا" في العاصمة اللبنانية بيروت، مع بضائعهم. فالسوق شعبي في المحلة التي يقع فيها وهي البسطة التحتا، وفي تراكم البضائع بعضها فوق بعض، وفي التجهيزات والخدمات السيئة داخله، عدا عن الحرّ والعتم في أجوائه، ليس شعبياً أبداً في أسعاره، فبعض القطع هناك، حتى الصغيرة منها، يمكن أن تباع بآلاف الدولارات.
يتحدث كامل، الذي يملك محل بقالة صغيراً بالقرب من السوق الذي تنتشر بعض محلاته خارج التجمع الرئيسي، وهو المبنى المعروف بـ"سوق الروشة"، أنّه شاهد بيانو قديماً طوال سنوات لدى أحد البائعين، وكان يتندر عليه ويسأله عن "أحوال البيانو" وإذا صادف البائع بعيداً عن السوق يطلب منه أن يوصل "السلام إلى البيانو" حتى جاء يوم اختفى فيه البيانو، فلم يتمالك كامل نفسه، وسأل البائع مباشرة عنه، فأجاب الأخير: "سخرت منه طويلاً وها قد بعته بسبعة آلاف دولار أميركي. ألم أقل لك إنّني أنتظر زبونه؟".
يشكّ كامل في أنّ البائع قال له ذلك كي يعطي لنفسه اعتباراً لا أكثر، لكنّه لا يستغرب إمكانية بيعه بهذا السعر في المقابل، ففي كلّ الأحوال يتكرر مشهد البضائع التي تبقى طويلاً في المكان حتى تتحول إلى جزء منه، وربما يرث أحد الأبناء المحل وهي على حالها، إلى أن يأتي ذلك الزبون المنتظر.
هكذا لا يمكن أن تأخذ قائمة بأسعار عامة من أصحاب المحلات، فسؤال من نوع "ما أسعار الطاولات أو الكراسي؟" غير محتمل، لأنّ لكلّ غرض قيمته مهما كنت تحسبه حقيراً، وقيمته تلك ناشئة إذا كنت من غير الخبراء، عن مدى قدرة البائع على إقناعك، بالترافق مع قدرتك على المساومة... فربما تشعر بالانتصار إن تمكنت من نيل غرض ما بأرخص من السعر الذي وصل إليه البائع في المساومة الأخيرة بـ50 دولاراً، لكنّك لا تعلم في المقابل إن كان الغرض يساوي ما دفعت فعلاً أم لا، قبل الحديث عن ربح البائع.
يسرّ أحد العمال في القسم الأعلى من مبنى "سوق الروشة"، أي القسم الذي تباع فيه الملابس والأقمشة وأدوات الزينة والأدوات المنزلية، والذي يشهد كساداً كبيراً، أنّه عمل مع بائع في سوق الأنتيكا، باع صالون ستيل باللونين الأخضر والذهبي بعشرة آلاف دولار، ولم يكن قد كلفه أكثر من 700 دولار، بل وصل إليه وهو في محله بهذا السعر ولم يسعَ خلفه حتى.
إذاً، من أين تأتي البضائع؟ يقول العامل إنّ معظمها يجلبه إلى المكان أشخاص يرغبون في بيع ما لديهم من أثاث عتيق وأغراض لا يعرفون قيمتها: "قد يكون البائع أيضاً لا يعرف قيمتها، لكنّ المؤكد أنّه إذا اشتراها منهم فهي ذات قيمة، أو سيكون قادراً على تصريفها، وسيحقق ربحاً كبيراً منها". يشير أيضاً إلى أنّ المزادات مصدر رئيس لهذه البضائع، ولدى أغلب تجار المكان خبراؤهم في شؤون البضاعة والمزايدات، والهدف كما في كلّ عملية بيع لا تتضح كلفة بضائعها تحقيق أكبر ربح ممكن.
وإذا كانت "التجارة شطارة" كما في القول الشائع، فإنّ تجار هذه البضائع يحاولون أن ينالوا نصيباً من هذه "الشطارة" وينجحون في أحيان كثيرة، بفضل الزبون المهيأ لكلماتهم؛ "هذا التمثال من البرونز... وهو ثقيل جرب رفعه... جلبته من فرنسا، وثمنه 650 دولاراً مع الشمعدانين، لكن من أجلك فقط واستفتاحة (أول بيعة في النهار) سأبيعه لك بـ500 دولار، لكن لا يمكنني أن أنقص أكثر فقد كلفني مبلغاً أكبر، أقسم لك، مع ذلك سأبيعه كي أستبدل البضائع فقط".
لكنّ أبو أحمد، الذي يقف أمام مكتبة عتيقة بدورها، مواجهة لـ"سوق الأنتيكا" بينما يتناول فنجان قهوة قبل المضيّ في سبيله، يقول إنّه شهد على فتاة أوروبية تتحدث العربية، تنافس عليها بائعان، إذ كانت تعاين سكيناً هناك، فقال لها البائع صاحب السكين إنّ عمره 300 عام، وهو مصنوع في جزين في حقبة الأمير بشير الشهابي. فابتسمت وقالت: "في تلك الفترة كانت قبضات السكاكين من قطعة واحدة، أما هذه القبضة فقطعتان ملصقتان ببعضهما فوق المعدن". يتابع أبو أحمد الذي اشترى طاولة "جميلة ومتينة" أوصاه عليها مصمم أزياء يعمل معه، بمائة دولار، ثم باعها له بمائة وخمسين: "عندها، تركاها فوراً، فقد عرفا أنّها تعرف ما تعاين ولن يتمكنا منها".
شهد المكان حريقاً عام 2011، أتى على كثير من البضائع، فعدا عن البرونزيات والفضيات والتماثيل والمجسمات المعدنية المختلفة هناك مرايا بأطر مذهبة، وآلات موسيقية، وأدوات مختلفة كالهواتف وساعات الحائط والآلات الكاتبة والمسجلات وآلات تشغيل الأسطوانات القديمة مثلاً، وأدوات مطبخ، وثريات زجاجية ومعدنية، بالإضافة إلى لوحات قماشية بأطر خشبية، ومفروشات بصوفها وإسفنجها، وطاولات وكراسي بخشبها وقشها. يؤكد أحد التجار أنّ نصف مخزنه الذي يعلو محلّه احترق، وضاعت عليه مبالغ هائلة عجز عن تقديرها لكنّها بعشرات آلاف الدولارات. مع ذلك، لم يعوّض أحد عليهم، ولم تُعرَف أسباب الحريق الذي استمر طوال ساعات.
تبقى الإشارة إلى أنّ المبنى الذي يضمّ القسم الأكبر من "سوق الأنتيكا" وهو "سوق الروشة" تعود تسميته، بحسب البعض، إلى التجار الذين جاؤوا من سوق الروشة الأول بالقرب من الصخرة الشهيرة عند ساحل العاصمة، الذي كان صفاً من الدكاكين المبنية بألواح التنك، والذي أقفل أبوابه قبل منتصف الثمانينيات، بعدما تلقى ضربات عديدة أبرزها خلال الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة عام 1982، وانتقل البائعون منه إلى مجمع تجاري كبير بالاسم نفسه "سوق الروشة الجديد" عند مدخل بيروت الجنوبي، ومنهم من انتقل إلى سوق البربير الشعبي في بيروت لاحقاً. لكنّ من هم في "سوق الروشة" الواقع في محلة البسطة التحتا يؤكدون أنّ الاسم هنا سبق سوق الروشة الأساسي، ولم يأتِ تجار من هناك إليه بعد الإقفال، لكنّهم مع ذلك لا يعلمون لماذا سمّي المبنى باسم الصخرة البعيدة عن المكان.
في كلّ الأحوال، اختفى سوق الروشة الأول، ولم يعمل السوق الثاني بمحلاته ومكاتبه التي تتجاوز الألف بل تحول إلى ما يشبه المقبرة بالرغم من موقعه المميز ومساحته الكبيرة، ولم يبقَ غير "سوق الروشة" هذا بما يضمّ من محلات متنوعة في الجهة العليا وبوابتها الرئيسة من شارع سليم سلام، والجهة السفلية بـ"سوق الأنتيكا" الذي يحتلها، وبوابتها الرئيسة من شارع حوض الولاية... لكنّ قلة المتسوقين، والمحلات الفارغة الكئيبة المعروضة للإيجار في القسمين، لا تبشر بالخير.