أبو قويدر ليس حالة متفردة. مثله آلاف العرب في المهاجر، الأطباء والمهندسون والعلماء والباحثون والتجار والحرفيون والمستثمرون. التربة الخصبة للإبداع، من توفر البحث العلمي والتميز، تضع الجاليات أمام نماذج يستفيد الغرب مما وفرته لهم. نوقشت كثيرا مسألة هجرة الأدمغة والكفاءات، لكن مرة أخرى بتنا أمام ظاهرة مختلفة تحتاج لأجوبة بعيداً عن بيروقراطية البلاد العربية.
بعد سنوات من معاناة العمل لتمويل دراسته، حيث مزج بين الشغل والدراسة للتغلب على تكاليفها، تخرج نضال أبو قويدر بجدارة في اختصاص الجراحة في عام 2003، كأحد أهم الاختصاصات في إيطاليا. وعرفه الإيطاليون، طيلة 13 سنة، ذلك الشاب الفلسطيني الذي اندفع ليقدم خبرته في المجتمع الذي سانده في تحصيله العلمي. عرفته عديد المستشفيات في أوزيمو وارفيتو وبرانكا، ومؤخرا جرى الاعتماد عليه في سبوليتو في العديد من الجراحات الإسعافية الخطرة .
بالعودة إلى طفولة نضال في أزقة مدينته الخليل يذكر لـ "العربي الجديد" بلهجة خليلية مميزة عن باقي مدن الضفة الغربية : "ما كنا نعيشه من واقع الاحتلال، بكل ما حمله من ظلم واضطهاد، ومشاهدة الناس تتساقط بفعل الإصابات على يد جنود الاحتلال في الانتفاضة، شيء ما في داخلنا جميعا نما باتجاه مزيد من التصميم. كل منا بحث عن طريقة لأن يكون هنالك شيء في المواجهة. لقد نمت رغبة داخلي بأن أصير طبيبا مسعفا لهول ما رأيت من إصابات بالطلقات. واجهت الكثير من المطبات في أوقات الدراسة، لكني أعترف بفضل أهلي وأصدقائي علي".
يصمت نضال قليلا وبصوت فيه غصة يتحدث عن حلم عودته إلى الخليل، وخصوصا أن "والدي تمنى أن أعود مباشرة بعد تخرجي للعمل في الخليل. لكن السنوات جرت وأنا منهمك أكثر في الاستزادة من العلم والخبرة والتخصص في الجراحة. فقدت والدي أثناء دراستي أيضا، وهو ما حز فيّ كثيراً. الغربة حينها أصبحت صعبة جدا، وخصوصاً الابتعاد عن الأهل والأصدقاء. عدت إلى الخليل وأسست منزلا. تزوجت من مدينتي وأحرص دائما على العودة مع الأبناء كلما كانت هناك إجازة ليتعرف الأبناء على الأهل والجذور والثقافة واكتساب اللغة التي نعتز بها".
وعلى الرغم من النجاحات التي حققها في الغرب إلا أن الوضع الصحي في فلسطين ظل هاجس الطبيب الخريج في إيطاليا، فبدا يعود إلى مشافي الخليل، وخصوصا مشفى عليا الحكومي من خلال تنظيم رحلات علاجية مع الأطباء الفلسطينيين في الغرب عبر منظمة "بالميد". وفي رحلات تطوعية جراحية عديدة في لبنان وغزة وسورية "كما نعمل على إرسال أدوية وأدوات طبية للمناطق المحتاجة وهو واجب أخلاقي ومهني ووطني نفتخر به. وبالمقابل ننظم للمجتمع الإيطالي حملات للتبرع بالدم بالتعاون مع الصليب الاحمر . تتفهم عائلتي ظروف عملي حيث لا يوجد هناك مواعيد ولا أوقات وكل ما يحكم ذلك حاجة المرضى لتواجدي إلى جانبهم وتلبيتي لنداء الواجب".
في إيطاليا، بلد الاغتراب، يعرفه الإيطاليون مندفعاً ومثابراً في تقديم ما أقسم عليه. فهو واحد من الأطباء الذين يعرف عنهم استجابتهم السريعة لنداء الواجب "حتى في أيام عطلاتي وإجازاتي أعود بسرعة حين يتطلب الواجب ذلك. المرضى بعضهم لا يمكن أن تنساه، فقد كان كهلا في الـ92 من العمر، فقد زملائي الأمل به. لكني أصررت على إجراء عملية جراحية معقدة له وبعون الله استعاد عافيته، وحتى اليوم ما تزال العلاقة جيدة مع هذا الكهل. وبعض المرضى الذين أنقذ حياتهم بعمليات جراحية، وبعد استفاقتهم بعد نقلهم من غرفة العمليات يريدون رؤية الطبيب الذي أنقذ حياتهم فيُفاجَأون بأن الطبيب الذي كانوا بين يديه عربي مسلم... كثيرا ما سمعت تعليقات مشجعة عنا نحن العرب حين نقوم بما يمليه علينا واجبنا وأخلاقنا وديننا. أرى أن ذلك يغير الكثير من الصور السلبية والنمطية عنا في الغربة".
ساهم نضال أبو قويدر، حتى في أوقات الزلازل. تراه متنقلا عبر الهليكوبتر الإسعاف من منطقة إلى أخرى إنقاذا لأرواح المصابين بإصابات خطرة، رغم كل صعوبات الوصول إلى تلك المناطق يجازف نضال بلا نوم واستراحة لأيام كما جرى في الزلازل الأخيرة، وكما حدث في أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حيث استكملنا النقاش معه أثناء استراحة في بيروجيا، التي أصابها عدد من الهزات الأرضية التي استدعت تواجده فيها كواحد ممن يملكون خبرة جراحية في إنقاذ المصابين بجراح خطيرة.
يرى أن الإيطاليين يرون في قيامه بدوره مع أطباء عرب آخرين ما يمكن أن يشكل اندماجا نموذجيا يستفيد منه الشباب العربي المقيم في المجتمعات الأوروبية، "وخصوصاً المساهمة المدنية الراقية التي تعطي أجمل ما في ثقافتنا العربية في ظروف مناسبة دون التفات للون ودين من نساعد".
ولدى الطبيب العربي الإيطالي نضال أمان كثيرة لمئات الأطباء العرب في إيطاليا، وغيرها حيث ينتشر الآلاف منهم في الغرب:" أتمنى أن يكون للأطباء العرب في إيطاليا، وغيرها، وزن أكبر مؤثر بحيث يمكنهم إيجاد حلول لبعض متطلبات الجاليات العربية مثل ختان الأطفال أو بعض الأمور المتعلقة بالطبيبات العربيات لما فيه من خصوصية نجاح لهن أيضا. أتمنى أن يكون للأطباء العرب في الغرب دور في رفع سوية الصحة في العالم العربي، فكم لدى هؤلاء الآلاف رغبات في تقديم كل ما امتلكوه من علم في غربتهم من أجل مجتمعاتهم الأصلية التي يحبونها".
أما عن علاقته بالأطباء الإيطاليين فيقول إنه يحظى باحترامهم وتقديرهم، "وخاصة لمعرفتهم بالظروف الصعبة التي يعانيها الطبيب الإيطالي للوصول إلى هذا الموقع والأمر يزداد صعوبة عند الطلبة الأجانب وهذا ما شكل سببا مهما في تشكيل صداقات مميزة معهم".
أما اليوم فقد فرض عليه قسم أبقراط أن يكون في الصف الأول في المشافي، التي تقع في الدائرة الحمراء، كما صنفها مركز الرصد الزلزالي والبراكين في إيطاليا، حيث عجت مؤخراً مشافي وسط إيطاليا، منذ أيلول الماضي، بمئات الجرحى والمصابين إبان الزلازل التي ضربت مقاطعة الأومبريا وماركة، ودمرت نتيجته مدينة أماتريتشة وراح ضحيتها مئات المدنيين.
وغير بعيد، تجددت الهزات لتضرب أيضا منطقة نورشة، التي تبعد حوالى 50 كيلومتراً عن المشفى الذي يعمل به كجراح في قسم الإسعاف، مما دعاه إلى أن يتواجد لساعات طويلة ويكثف مناوباته لاستقبال الحالات الكثيرة، التي تصل إلى غرف العمليات. ويقول في ذلك "أعتقد أن ما يميزني عن زملائي هو رباطة جأشي وهدوئي في معاينة وعلاج الحالات الصعبة، وذلك لما يشابه خبرتي التي عايشتها في فلسطين ومشاهداتي للحالات الصعبة والخطيرة، التي يتعرض لها شعبنا خلال نضاله ضد الاحتلال" .