يوم السبت الماضي، في "بطولة العالم لألعاب القوى" في لندن، كان آخر ظهور للعدّاء الجامايكي يوسين بولت. في منتصف سباقه الأخير، سقط على الأرض مصاباً وخسر كل أمل في الصعود على المنصّة في آخر مشواره. الجمهور البريطاني ورغم أن فريقه حاز الذهبية في نفس السباق لم يعلن أفراحه، وظل يتابع بانشغال أخبار البطل المصاب.
كان ذلك هو المشهد الأخير في حكاية بولت الرياضية. حكايات كثيرة قد تبدأ مع هذه النهاية، ولكن اعتزاله سيظل حاملاً مرارات بعد أن أمضى كل مسيرته في القمة. في الرياضة، ليست الأعمال بخواتيمها فحسب، فبولت الخاسر ظلّ رغم ذلك بولت البطل. وليست هزائم لندن الأخيرة سوى خدوش في مسيرة أسطورية.
يقول المثل المعروف "الوصول إلى القمة صعب، غير أن البقاء فيها أصعب". مسيرة بولت كانت عبارة عن بقاء طويل جداً في القمة، فمنذ أن ظهر مع الألفية الجديدة في سباقات المراحل العمرية الصغرى، وصولاً إلى اعتزاله أمس، لم يخرج بولت من سباق من دون ميدالية؛ أغلبها كان من الذهب وقليل منها من المعادن الأخرى، وإلى جانبها راكم سلسلة من الأرقام القياسية المحطّمة باسمه في سنوات ذروة مسيرته بين 2008 (ألعاب بيكين) و2012 (ألعاب لندن).
ما تخفيه التتويجات بصورها الأخيرة المنمّقة والمبتهجة هو قسوة الصعود إلى القمة، وقسوة البقاء فيها. ربما، بعد ذلك، سنفهم لحظة الاعتزال كلحظة انعتاق من هذا الواجب الثقيل الذي يستقر على أكتاف الأبطال طوال مشوارهم، من النظام الغذائي إلى شبكة علاقاتهم.
بولت كان أيضاً نتاج بلد وتاريخ وشعب. لقد استثمرت جامايكا في الرياضة قبل عقود من ظهوره، وهيّأت له أجيال سبقته مدارج الصعود للقمة. كذلك لم يكن البطل الوحيد، كان فقط مثل شمس أخفت بقية الكواكب، بدليل أن من بين ميدالياته ثمة عدد من السباقات الجماعية التي استطاعت فيها جامايكا أن تتغلّب مرّات ومرات على العملاق الأميركي، وخلال مسيرة بولت استطاعت من بين بقية بلدان العالم أن تحدّ من شراهته للميداليات لسنوات متتالية. ومع بولت، يمكننا مستقبلاً أن نذكر جامايكا باسم آخر غير بوب مارلي.
باختصار، لقد لامس بولت الحدود البشرية (تقرأ في بعض المقالات أن علماء أنثروبولوجيا وبيولوجيا وعلوم أخرى يشتغلون على ظاهرته). من هنا، مثّل منذ سنوات عامل إلهام؛ في بلده يمكن العودة إلى لحظات تتويجه بميدالية أولمبية في ريو دي جانيرو (2016) كي نرى حالة الانتشاء الشعبي، بل والفرح الهستيري، الذي يصاحب ذلك. ولكن في بلدان أخرى سنجد الكثير من المحبّة والتطلّع إليه، من أوروبا إلى جنوب العالم تحوّل بولت إلى أسطورة حية ومُلهمة، متابعون في كل مكان لا تربطهم به قرابات الجنسية أو العرق، لكنهم يفرحون لتتويجاته ويحزنون لعثراته، ثم لمغادرته عالم ألعاب القوى.
صحيح أن الشركات الرياضية وغير الرياضية اقتنصت هذه الصورة منه وأدمجتها في لعبة الأسواق وصراعات العلامات التجارية، ولكنه وعلى عكس كثيرين يمكن نزع الصورة المصنّعة من دون أن يمسّ ذلك بـ "عظمة بولت".
عامل السنّ (31 سنة) لا شك كان وراء قرار إنهاء المشوار، وقد أثبتت السباقات الأخيرة أنه دخل سنة زائدة في مسيرته، وفي لندن عرف وجهاً آخر من قسوة القمة؛ ذلك السقوط في منتصف السباق الأخير، ثم المشهد النهائي الذي يسير فيه متوجّعاً بمساعدة زملائه إلى خارج المضمار.
تلك اللحظات كانت إعادة لكل المشوار الأسطوري إلى العنصر البشري الهش. الجسد الذي لا يمكنه أن يظل في القمة "البدنية" إلى الأبد، لذلك فما يبقى في النهاية هو البعد الإلهامي وحده.
كان بولت معبّأً بطاقة كان مداها مسيرة أكثر من عشر سنوات من التتويجات، مسيرته اليوم هي نفسها تختزن طاقة ربما تفيد في مجالات كثيرة أوّلها النهوض بالرياضة وأي مجال آخر في بلدان شبيهة بجامايكا، على أمل أن لا يطفئها تزاوج الرأسمالية والبيروقراطية ووعودهما التي أطفأت أكثر من مشعل.
كان ذلك هو المشهد الأخير في حكاية بولت الرياضية. حكايات كثيرة قد تبدأ مع هذه النهاية، ولكن اعتزاله سيظل حاملاً مرارات بعد أن أمضى كل مسيرته في القمة. في الرياضة، ليست الأعمال بخواتيمها فحسب، فبولت الخاسر ظلّ رغم ذلك بولت البطل. وليست هزائم لندن الأخيرة سوى خدوش في مسيرة أسطورية.
يقول المثل المعروف "الوصول إلى القمة صعب، غير أن البقاء فيها أصعب". مسيرة بولت كانت عبارة عن بقاء طويل جداً في القمة، فمنذ أن ظهر مع الألفية الجديدة في سباقات المراحل العمرية الصغرى، وصولاً إلى اعتزاله أمس، لم يخرج بولت من سباق من دون ميدالية؛ أغلبها كان من الذهب وقليل منها من المعادن الأخرى، وإلى جانبها راكم سلسلة من الأرقام القياسية المحطّمة باسمه في سنوات ذروة مسيرته بين 2008 (ألعاب بيكين) و2012 (ألعاب لندن).
ما تخفيه التتويجات بصورها الأخيرة المنمّقة والمبتهجة هو قسوة الصعود إلى القمة، وقسوة البقاء فيها. ربما، بعد ذلك، سنفهم لحظة الاعتزال كلحظة انعتاق من هذا الواجب الثقيل الذي يستقر على أكتاف الأبطال طوال مشوارهم، من النظام الغذائي إلى شبكة علاقاتهم.
بولت كان أيضاً نتاج بلد وتاريخ وشعب. لقد استثمرت جامايكا في الرياضة قبل عقود من ظهوره، وهيّأت له أجيال سبقته مدارج الصعود للقمة. كذلك لم يكن البطل الوحيد، كان فقط مثل شمس أخفت بقية الكواكب، بدليل أن من بين ميدالياته ثمة عدد من السباقات الجماعية التي استطاعت فيها جامايكا أن تتغلّب مرّات ومرات على العملاق الأميركي، وخلال مسيرة بولت استطاعت من بين بقية بلدان العالم أن تحدّ من شراهته للميداليات لسنوات متتالية. ومع بولت، يمكننا مستقبلاً أن نذكر جامايكا باسم آخر غير بوب مارلي.
باختصار، لقد لامس بولت الحدود البشرية (تقرأ في بعض المقالات أن علماء أنثروبولوجيا وبيولوجيا وعلوم أخرى يشتغلون على ظاهرته). من هنا، مثّل منذ سنوات عامل إلهام؛ في بلده يمكن العودة إلى لحظات تتويجه بميدالية أولمبية في ريو دي جانيرو (2016) كي نرى حالة الانتشاء الشعبي، بل والفرح الهستيري، الذي يصاحب ذلك. ولكن في بلدان أخرى سنجد الكثير من المحبّة والتطلّع إليه، من أوروبا إلى جنوب العالم تحوّل بولت إلى أسطورة حية ومُلهمة، متابعون في كل مكان لا تربطهم به قرابات الجنسية أو العرق، لكنهم يفرحون لتتويجاته ويحزنون لعثراته، ثم لمغادرته عالم ألعاب القوى.
صحيح أن الشركات الرياضية وغير الرياضية اقتنصت هذه الصورة منه وأدمجتها في لعبة الأسواق وصراعات العلامات التجارية، ولكنه وعلى عكس كثيرين يمكن نزع الصورة المصنّعة من دون أن يمسّ ذلك بـ "عظمة بولت".
عامل السنّ (31 سنة) لا شك كان وراء قرار إنهاء المشوار، وقد أثبتت السباقات الأخيرة أنه دخل سنة زائدة في مسيرته، وفي لندن عرف وجهاً آخر من قسوة القمة؛ ذلك السقوط في منتصف السباق الأخير، ثم المشهد النهائي الذي يسير فيه متوجّعاً بمساعدة زملائه إلى خارج المضمار.
تلك اللحظات كانت إعادة لكل المشوار الأسطوري إلى العنصر البشري الهش. الجسد الذي لا يمكنه أن يظل في القمة "البدنية" إلى الأبد، لذلك فما يبقى في النهاية هو البعد الإلهامي وحده.
كان بولت معبّأً بطاقة كان مداها مسيرة أكثر من عشر سنوات من التتويجات، مسيرته اليوم هي نفسها تختزن طاقة ربما تفيد في مجالات كثيرة أوّلها النهوض بالرياضة وأي مجال آخر في بلدان شبيهة بجامايكا، على أمل أن لا يطفئها تزاوج الرأسمالية والبيروقراطية ووعودهما التي أطفأت أكثر من مشعل.