ليس بديهياً الانتصار يوماً في مواجهة إسرائيل اقتصادياً. فهذه الدولة، عندما توصَف بأنها رأس حربة الاستعمار الغربي في المنطقة العربية، إنما يعني ذلك، من ضمن ما يعنيه، أنها مؤسسة ضخمة بمعايير غربية بامتياز، خصوصاً في بنيتها الاقتصادية الرأسمالية جداً.
فإنشاء الكيان في فلسطين المحتلة لم يكن مجرد خيار توراتي ديني، يقول إن فلسطين هي أرض اليهود التي يجب أن تحتضن دولتهم لوحدهم، بل أيضاً حصل على يد عتاة علمانية التيار الصهيوني وتجاره ومتموّليه الذين هندسوا مولودهم بشكل يمكنه من العيش في محيط معادٍ، عسكرياً واقتصادياً.
وكأن الرأسمالية والمقاطعة توأمان، متى وُجد الأول وجدت فكرة الثاني معه بالفعل تلقائياً، بما أن الظلم الناتج عن بزوغ القيمة المضافة، أو الربح بلغة التجارة، والسرقة بالمصطلحات الأكثر دقة والأقل دبلوماسية، يولّد تلقائياً شعوراً أولياً بالحاجة للمقاطعة بالحد الأدنى.
مقاطعة المنتَج، ثم قوانين السوق وصولاً إلى "السيستم" عموماً، بغض النظر عن القدرة على جعل المقاطعة مستدامة. هكذا هي إسرائيل أيضاً. ولادتها الدموية واستمرار حياتها على حساب حيوات شعب أصلي وممتلكاته واقتصاده، تبعث، وفق شعور إنساني بدائي مجرد من الحسابات القومية والنضالية، إحساساً بضرورة مقاطعة هذا الشيء، بدولته واقتصاده وناسه.
ولا ينكسر الشعور بالحاجة لمقاطعة أناس هذا الكيان، إلا عندما تدخل الحسابات السياسية، بمعناها النبيل غالباً، على خط التفكير بكيفية تسجيل النقاط ضد إسرائيل، عبر استمالة الكثير من الإسرائيليين اليهود إلى "جانبنا"، وهم موجودون بالفعل وبأعداد كبيرة بالتأكيد، وفي مواقع حساسة للغاية داخل "المؤسسة" الإسرائيلية، من جامعات ومراكز أبحاث ومؤسسات إعلامية وجمعيات مجتمع مدني وقطاعات فنية ــ ثقافية.
لكن المقاطعة الاقتصادية تزداد صعوبة كلما كان البديل الاقتصادي غائباً، كما هو الحال في واقعنا العربي.
فهذا العالم العربي لم يكتفِ بعدم بلورة نموذج اقتصادي بديل عن الرأسمالية العالمية، التي تشكل إسرائيل أحد أقطابه، بل أيضاً لم يتمكن من (أو لم يرغب في أو لم يسمح له بـ) تطوير أي صناعة خاصة به وذات قيمة محترمة حتى من ضمن النظام الرأسمالي المعولم، ليكون أمام المواطن العربي خيار مقاطعة المنتج الإسرائيلي، أو الشركة التي تملك فروعاً لها في دولة الاحتلال، أو تلك التي تجاهر بتخصيص نسبة من أرباحها لمؤسسات إسرائيلية، رسمية عسكرية أو خاصة دينية مثلاً.
ولطالما أُحبطت مشاريع تصنيعية عربية بأفق سياسي كان يمكن لها أن تنافس فعلاً شركات وماركات عالمية، بسوق عربية مؤلفة من 400 مليون مواطن، أكانت تلك الصناعات "ثقيلة" أو تقنية حديثة (النانو تكنولوجيا) أو متوسطة بشكل يمكّنها، من حيث الجودة والسعر، أن تكون منافسة حتى لأصناف عالمية معروفة بدعمها أو تعاطفها على الأقل مع إسرائيل.
ولأن إسرائيل ابنة شرعية للنظام الرأسمالي، ولأن الاقتصاد الإسرائيلي هو بخدمة سياسة تل أبيب، فإنّ اقتصادها تمكن من إيجاد ألف وسيلة للاحتيال حتى على المستهلك العربي، الذي لا تقيم دولته اتفاقية "سلام" وتطبيع مع دولة الاحتلال.
في قطاع غزة والضفة الغربية اليوم، وجنوب لبنان قبل عام 2000، غزت منتجات إسرائيلية أسواقاً بالعلن أو الاحتيال. بالعلن من خلال رخص السعر وقدرته التنافسية العالية، وبالاحتيال من خلال تمويه مصدره في ظل غياب رقابة حقيقية لسلطات رسمية، كل همها ملاحقة كتاب إسرائيلي (حتى ولو كان سياسياً ضد السياسة الصهيونية بشكل من الأشكال) أو أسطوانة موسيقية لمؤلف إسرائيلي لامع (وما أكثرهم للأسف)، وهو ما يلاحظ خصوصاً في لبنان.
المقاطعة ليست ترفاً، بل خياراً بديهياً لناحية رفض تمويل اقتصاد دولة مجرمة محتلة، حتى ولو تسبب ذاك الخيار بخسائر اقتصادية لفلسطينيين فرض عليهم التاريخ والواقع أن يحملوا الهوية الإسرائيلية، وأن يعملوا في اقتصاد هذه الدولة، وأن يعتاشوا من صناعات يتم تصديرها ومطلوبة مقاطعتها.
لكن المقاطعة الاقتصادية تبقى سلوكاً مقاوماً رمزياً، رومانسياً، حتى تصبح خطوة في مشروع سياسي مقاوم، وحتى يتوفر البديل الاقتصادي العربي، والبرنامج الذي يستطيع استثمار المقاطعة بنتائج سياسية، والتاريخ مليء بنماذج المقاطعة الاقتصادية، التي لم تنجح إلا حين كانت بنداً في كتاب النضال الوطني بأوسع معانيه، ثورة الملح في هند المهاتما غاندي مثالاً.
(صحافي فلسطيني / بيروت)