يزخر التاريخ المعاصر بحكايات مثيرة لتطاحنات عائلية بين الورثة حول إرث هذا الأب أو تلك الأمّ. وليس التناحر وقفًا على الأثرياء من رجال المال والأعمال، بل يتعداه إلى الفئات الميسورة من مشاهير المثقّفين والأدباء أو المفكرين والفنانين. الأمثلة الحية القريبة منّا، وأضحت المادة الإعلامية الشهية لمتابعات قضائية، هي التي تهمّ إرث أو ميراث الفنّان بابلو بيكاسو أو إرث الزعيم نيلسون مانديلا. فقد توفي بيكاسو من دون أن يترك وصية مكتوبة. وبما أنه كان مزواجًا مطلاقًا، انتفض من الظلّ ورثة "غير شرعيين" أمثال مايا بيكاسو وبالوما بيكاسو، وكلود بيكاسو ليبلغ مجموع المطالبين بنصيبهم من الثروة ستة أبناء، تقاسموا مع الدولة، بعد مسلسل قضائي تراجيكوميدي، 700 مليون يورو. تسبّب هذا "الإرث المسموم" في خصومات قضائية بيزنطية لا نهائية، أفرغ فيها كلّ طرف حقده على الآخر، وأفرغ الجميع حقدهم على الأب. أمّا ثروة نيلسون مانديلا التي تقدر بثلاثة ملايين يورو، فلا تزال محطّ تجاذب بين أنصار إيفلين زوجة مانديلا الأولى، وجماعة ويني زوجته ما قبل الأخيرة.
المثير هو غياب مثل هذه السلوكيات لدى الأدباء والمفكّرين والفنّانين العرب، وذلك لسبب بسيط ؛ أن هؤلاء أغنياء بما لا يملكونه. فلا كتبهم ولا لوحاتهم هي بقيمة مبيعات بيكاسو أو مبيعات روائيين أمثال ألبير كامو أو جان بول سارتر أو أغاثا كريستي الذين اغتنوا بمبيعاتهم. وغالبًا ما تحلّ مشاكل الإرث، إلا في حالات نادرة، بشكل توافقي وسلمي بين أفراد العائلة. وهذا ما حدث في أوساط عائلة طه حسين. فقد أشارت الدكتورة مها عون، حفيدة الكاتب، التي فوّضتها العائلة المؤلّفة من خمسة أشخاص بإعادة نشر أعماله، وأنها لا تسعى إلى جني مكاسب مادية، المهم أن تُنشر الأعمال وتوزّع على نطاق واسع في مصر وخارجها لتعميم فكر عميد الأدب العربي. اتفقت مها عون مع مؤسسة هنداوي للنشر على طبع الأعمال بنسخة إلكترونية وتوزّعها مجانًا. لم نسمع عن خصومات بين ورثة نجيب محفوظ أو جبران خليل جبران، وإن حصلت، فقد بقيت حبيسة الملفات القضائية ولم " تبوّق" لها وسائل الإعلام. لكن ثمّة حالات، تسبّب فيها الإرث، الرمزي أكثر منه المادي، في تصدّع عائلي حادّ. تخصّ الحالة الأولى عائلة الرحابنة، فالصراع قام بين منصور الرحباني من جهة، وورثة عاصي الرحباني من جهة ثانية، أي السيدة فيروز وابنها زياد وابنتها ريم. أما الحالة الثانية، فتخصّ فيلسوفًا من العيار الثقيل، فقده الفكر العربي منذ خمس سنوات، وفقد معه وسيطًا مهمًّا بين المشرق - المغرب والغرب؛ المفكّر والمِؤرخ محمّد أركون. يدور النزاع حول الإرث الرمزي بين سيلفي أركون ابنة محمّد أركون من زواجه الأول بسيدة فرنسية من جهة، وبين ثريا أركون زوجته المغربية الثانية التي كانت رفيقة عمره لمدّة 16 عامًا من جهة ثانية.
حين كان أركون على قيد الحياة، لم تكن العلاقة بين السيدتين جيدة. وبعد وفاته أصدرت سيلفي أركون كتابًا عن أبيها: "محمّد أركون: حياة بصيغة الجمع". فانفجر الخلاف بشكل حادّ، ما جعل ثريا تهدّد باللجوء إلى القضاء ومهاجمة كلّ من ساهم في إخراج الكتاب إلى حيّز الوجود، وعلى رأسهم الكاتب والباحث جيل كيبيل ناشر الكتاب، وجوزيف مايلا، الذي كتب مقدّمته، والأب بورمان أستاذ أركون وصديقه وأحد الوجوه البارزة في الحوار المسيحي الإسلامي. كانت الحجّة التي اتكأت عليها ثريا أركون، أن الكتاب حشوٌ من الأكاذيب، وأن ابنته كشفت أسرارًا شخصيّة عن الرجل، باعتباره "زير نساء"، وأنها تهجّمت على عائلتها بعبارات ساخرة خلال مراسم التأبين. وهذا الأمر من صنيع صحافة "البيبول" الفضائحية.
يُستشّف فعلًا من قراءة الكتاب، أن سيلفي لا تحبّ المغرب ولا تحبّ زوجة والدها. وقد ازداد هذا العداء لمّا قرّرت الأخيرة العودة إلى تيزي آوزو مسقط رأس والدها واستعادة مشواره الكامل. الكتاب عبارة عن رحلة في حياة الأب المجهول، أبٌ لم تعرفه جيدًا على اعتبار أنه لم يكن حاضرًا في حياة العائلة: "لقد عشتُ دائمًا خارج مرجعية الأب" تقول سيلفي أركون. كان ذلك بمثابة استكشاف لأصول تجهلها بل تجاهلتها عن قصد. لكن سعي سيلفي كان أيضًا محاولةً لإعادة أركون رمزيًا إلى تربته الجزائرية، بعد أن كان هذا الأخير قد قرّر أن يقيم في المغرب ويدفن فيها. يقوم الصراع بين ثريا وسيلفي في جزء كبير منه على "الترحيل" و"إعادة التأصيل". ففي وصفها لدفن أركون في مقبرة الشهداء في الدار البيضاء، عبّرت سيلفي عن ضيقها من البروتوكول الذي رافق مراسم الدفن، حيث السيارات الفخمة واللباس الأنيق، حيث الغاية منه المباهاة بين النساء لا التعبير عن الحداد. شعرت سيلفي بأن ثمة توجّه لتحويل الفقيد إلى قديس، بينما كان يكره شخصيًا، البروتوكولات والمراسم. لم تشوّش هذه الشهادة على صورة أركون رغم نبرتها الجافّة في حقّ أب غائب، أناني، أب "تنكّر للعائلة وللأصول". ذلك لأن هذه التفاصيل لا تصمد أمام ثقل فكر أركون الذي لا يزال راهنًا بقوّة. فالرجل يتحدّث عنه نتاجه، لا تلك التفاصيل أو الأقاويل التي نُسجت أو تُنسج من حوله. لذا لن يحفظ التاريخ هذه الخصومات البيزنطية، وهذا العداء الخفي أو الظاهر، حول إرثٍ مسموم يتلخّص في بضعة رموز، بل سيحفظ نتاجًا فلسفيًا أعاد النظر في منظومة الفكر العربي، واقترح فلسفة تنوير جديدة، وفتح الطريق لجيل من الباحثين والمثقفين، وهذا هو الأهم.