توجدُ منطقة وسطى بينك وبينك،
ستفتضّها وأنت تهبط إلى قاع الرّوح
مستمعاً لصدى كلّ الكلمات التّي لم تقلها
تلك الكلمات التّي تظلّ طيّبة بداخلنا ولا نبكي إلاّ عندها
وما إن تخرج حتّى تصير كلّ بكائنا.
وأنت تعبر ذلك الرّواق الطّويل
سيعاودك وجع يصير معه قلبك سفينة أعطاب
حتّى أنّك لن تعرف هل أنت الذّي تدير شؤونه أم هو الذّي يديرك.
لا تنشغل به،
سيكشف لك كيف تُصبح الرّوح خاوية
كإناء جمجمة لم يتبقّ منها غير صرخة تطلّ من ثقبي عينيها الواسعتين،
وجع يقفز بك فوق قانون العفو والغفران
لا تنشغل به أبداً
وانشغل بحشرجات جدران أضلعك وهي تحاكي
صرير الأرضيّات الخشبيّة حين تداس.
في الطريق إليك،
ستعترضك أعين مكتوفة
ستصطدم بأحشاء الفوضى الخصبة
وستتعثّر بجثّة لوركا البريئة
وبالوجوه المكعّبة لبيكاسو
وبمنديل إنانا يطوف حول إيروس المطعون
سيعترضك كلّ أولئك الذّين عبّدوا أرصفة الحقيقة
ومضوا دون التفات
ناسين تثبيت فوانيسها.
بينك وبينك مجرّة أحراش تتناسل فيها قطعان العناكب
كما تتناسل الرّياح الموسمية أواخر آذار
ستطلع لك أسراب الخفافيش من دهاليز أضلعك المقفرة
وستتعثّر بكل رؤوس النّعام التّي نبتت فجأة في رمالها القديمة
فقط من أجل إقناعك أنّ الأمر لم يكن يستحقّ،
لكن لن تؤذيك تلك الوجوه العمودية فهي مجرّد أوراق يانصيب برهان خاسر
يكفي أن تبادلها أشياء العاصفة،
تهشّها بمجداف الرّيح
وستمضي مزهوّة بعريها واضح الشّبابيك.
فقط امشِ
امشِ بلا رادع عاضّا على غصّة متحجّرة تحت الحلق
وإن اضطررت للقفز
افعلها
واقفز مستخدما تفاصيل العزلة وألبوم الفجائع التّي فجّرت دمك
امش وقل يا الله من أين يأتي كلّ هذا الألم
أصرخ يأتيك بودلير من فجّ الأفاعي بباقة الشرّ.
عابراً ذلك الرّواق الطّويل
أنت في حلّ من كرسيّ الانتظار المنتصب أمامك كشاهدة قبر
فما هو سوى بقايا جذع شجرة الصّمت الطّيبة ليس إلاّ
الشّجرة المذنبة التّي منحت أغصانها للفأس فاحتفلت بها النّار
عد خطوة واحدة إلى الوراء وابدأ من أوّل الماء
وكلّما تقدمت ستتأكّد أنّ ما تذهب إليه بحذر
هو تلك البدايات قبل مشيخها
أين تنام الرّوح بلا كوابيس ويكون لها معنى
كلّ اللاّفتات أمامك سترشدك إليك
من هنا قاعك/المدينة الكاملة لخارطة أحزانك
من هنا الطّفل الذّي ضاع منك ونام في الوحل والإثم والنّدم
من هنا الشّاعر الذّي قتل الصّدف السّعيدة فلم تجد السّماء فرحاً ترسله إلى الأرض
من هنا الأمنيات التّي تناثرت كمخدّات ريش عطست أوان الهبوب
من هنا حائط المبكى الذي رسمه عاشق استمنته العاطفة وقذفته
من هنا اللّيل الحقيقيّ الصّامت كحواسّ صبيّة افتتحت حيضها
وعضّت على شفة فكرتها النّاهدة
من هنا الشّعر الذّي لم يقف أمام مصدح واكتفى بالحياة على حافّة مصبّ نفايات
من هنا الصّوت الذّي لبس برودة أطفال الحرب في نشرات الأخبار
ثم أغلق الباب خلفه ناسياً المفتاح بالدّاخل
من هنا كومة الخذلان الذّي ارتكبته النّوايا الحسنة لفزّاعات الحقول
من هنا العزلة بأقدامها الحافية تمنح الغياب فرصة أخيرة لترميم أخلاق الوقت
من هنا الطّريق إليك أين ستدرك أنّه لم يكن ثمة داع لاجترار التّقوى
ولن يؤسفك الذّهاب مباشرة لمرمى اللّعنة
وستكون مضطراً لإيقاظ كلّ الأخطاء التّي حملت بك
فأنجبتها عن طيب خاطر
كيف لم تنتبه ان أرصدتك من الانتظار أسهم في بنوك الخسران
كيف لم تنتبه إلى الآن أنّ الذّي كسرك هو خشبُ المصطلح سماؤه خائرة،
خشبُ المعتقد حصادهُ ملح التّراجم المعطّلة من أزمنة ما كنت تستجمعها
لو أسقطت كلّ مسبحة عمرك حبّة حبّة فلن يكفي قرباناً للحكمة.
قل ما جدوى الحكمة والماء ما زال متردّداً في عقل الشّلال؟
قل كيف سيكفي قارب صغير لحمل جميع ركّاب روحك الثّقلى؟
قل يا يونس هل حقّا أنجبت العتمة ضوء في بطن الحوت؟
قل يا سقوطي بلا دوّي،
وستعرف وأنت تهوي نحو سماء القاع
أنّك صعدت عالياً...
عالياً جدّا...
وستضحك كثيراً وأنت ترى عالمهم السّفلي....
* شاعرة من تونس