The Voice Kids: تعليب المواهب.. والجراح

02 نوفمبر 2016
(من صفحة البرنامج على فيسبوك)
+ الخط -

تولد كلّ الكائنات على قدرٍ كبيرٍ من التّفاؤل، ثمّ تبدأ الأيّام بتعليمها دروس التّشاؤم المنطقيّة. الآن كلّنا نعلم أنّنا لن نستطيع الطّيران، في وقتٍ سابقٍ كنّا نحاول اجتراح التّحليق.

الآن نحن على يقينٍ بأنّنا سنفقد كلّ شيءٍ وكلّ أحدٍ، سنفقد حتّى أنفسنا في وقتٍ ما لا نعلم قربه من بعده. حين كنّا أقرب إلى الولادة الأولى من الولادة الثّانية؛ أقصد الموت، في تلك الخضرة الّتي كانت تتفجّر من قلوبنا، كنّا نظنّ أنّنا سنمتلك كلّ شيءٍ في وقتٍ واضحٍ، هو اللّحظة الّتي كنّا نعيشها؛ من كان يمتلك شيئًا أثمن من أملنا الأكيد بالغدّ؟ من أكثر ثراءً ممّن يمتلك يقين الخلود داخل البهجة؟ لذلك لا أتوقّف عن الحديث بالأمر؛ وأؤمن أنّ من واجبنا تكريس كلّ ما نستطيع كي نوجد السّلام للأطفال من حولنا، حتّى لو كان يستحيل وجوده، وأن نجعلهم على يقينٍ من أنّهم في سلامٍ، وأن نمحو من رؤوسهم كلّ ذكريات اللّاسلام.

السّلام لدى لأطفال ليس مطلبًا، بل حاجةٌ من حاجات توازن الطّبيعة؛ لن نستطيع، لا نحن ولا هي، الصّمود طالما لا يجد الأطفال السّلام الكافي لفعل طفولتهم.

ولنعترف كلّنا، أنّ الطّفولة لا تحظى بما يكفي من الاهتمام، بل على العكس، علاقتنا بالأطفال ليست علاقة حبٍّ صافٍ كما نتصوّر؛ داخل الطّفل المقهور في دواخلنا شيءٌ من رغبة الأذى للطّفل المسالم، أو عدم الاكتراث بحدوثه، نحن لا نبدو فعلًا شديدي الاكتراث، كما ينبغي بإنسانيّتنا، لما يحدث للأطفال حولنا. أنا لا أتحدّث فقط عن الأطفال الّذين صعدوا نحو رحمة الله، هنالك أطفالٌ لن يحسنوا التّعامل مع التّجربة بعد أن مرّوا بمحنة البقاء أحياءً بعد الواقع المتوحّش الّذي فُرض عليهم.


تعليب المواهب
لماذا أقول كلّ هذا؟ لأنّه عُرِض وأُعيد مؤخّرًا على شاشة MBC عرض برنامجٍ آخر من برامج تعليب المواهب ووضعها على رفٍّ من رفوف البقالة، الّتي هي عليها في الأصل؛ برنامجٌ ممتعٌ ويضمّ نجمًا أحترمه، هو الفنّان كاظم السّاهر، أو بالأحرى كنت أكنّ له احترامًا أكثر، برنامجٌ "أحلى من برنامج الكبار"، كما يقول النّاس، ويعطي الوعد الصّارخ للصّغار بأن يصبحوا نجومًا، وهذا أمرٌ على قدرٍ من السّوء، يجرّ فيه الآباء أبناءهم ضارعين لرحمة تامر حسني أو نانسي عجرم، لكي يأتيهم الوحي لسببٍ لا يفقهه أحدٌ، فيديران ظهريهما للأطفال الأكثر موهبةً منهما!

وقد لا يديران ظهريهما لسببٍ أيضًا لا يفقهه أحدٌ، مخلّفين جروحًا صعبة المحو على وجنة قلب الطّفل، تُعوّض بخمسة آلاف ريالٍ من شركة أومو لغسل مشاعر التّعاطف الجماهيري.


للتّعاطف أسباب!
من موقع تجربةٍ شخصيّةٍ، أعلم أنّك بحاجةٍ إلى معرفة أنّ من يكون بحاجةٍ لتعاطفك ودعمك الحقيقيّ، هو شخصٌ عرفته أو عرفت شيئًا عنه. عشت ذلك حين رأيت مدير مركز أيتامٍ يدفع الأيتام إلى البكاء من خلال إضاءة شمعاتٍ في يد كلّ واحدٍ منهم وهم يجلسون على الأرض، وأخذ يغنّي بصوتٍ حزينٍ عن الأمّ، وما هي إلّا دقائق حتّى غدت القاعة عاصفةً من النّحيب المتواصل والمرّ، وبعد اشتدادها سكت المغنّي وبدأت الكاميرات بتصوير الأطفال المذبوحين نواحًا.

سألت يومها مدير المركز، وهو صديقٌ أحترمه رغم فعلته الشّنيعة، فقال لي: "شو أعمل يا أحمد إذا ما بذوقوا النّاس وما بتبرّعوا للمركز إلّا لمّا يشوفوا الولاد ميّتين من البكا؟". سكتّ وقلت في نفسي: "أوف، نحن بحاجةٍ إلى أن نرى الطّفل يعاني قدر ما يستطيع من العناء والقهر، لكي نبدأ بالعطف عليه والاهتمام به؟".

ليس مهمًّا ما نقوله عن مراعاة المشاعر حين يكون الأمر متعلّقًا باللّعب على المشاعر، وهذا هو الجزء الأكثر قسوةً وصلافةً من باقي أجزاء البرنامج الممتع والمسلّي، والّذي ألوم نفسي لأنّني لا أجرؤ على التّصريح باحتقاري له، كي لا أكون ضدّ التّيّار الطّاغي المتابع له.

ثمّة أطفالٌ من شتّى الجروح العربيّة المبعثرة هنا وهناك، يشاركون في البرنامج، اعتلوا المنصّة بعد أن سمعنا تقريرًا وافيًا يحلب كلّ مرار مآسيهم وذكرياتهم المجترحة، وطفولتهم المعرّضة للانقراض، ولا تبدو في ذلك علّةٌ لولا كان الأمر متعلّقًا بوجود جروحٍ مفضّلةٍ على جروحٍ أخرى، وثمّة بلدان من المثير أن نعرف ما يحصل لأطفالها، وبلدان أخرى تلعنها الحرب لا نعرف عنها ولا عن أطفالها أكثر من أنّهم يقتلون للدّفاع عن الدّين والوطن والسّيادة... وإن عاشوا سيعرفون كلّهم أنّهم ما كانوا في مهبّ الموت إلّا دفاعًا عن قماءة السّيادة الّتي لا تعني إلّا سيادة الاستبداد والحال المائل.


الزّيف
الأمر الأكثر إثارةً، هو تلك المشاعر الزّائفة الّتي تتلوّى في قلب المشاهد الحنون المقهور حتّى آخر جينٍ فيه، والّذي يبدو أنّ أقصى ما يفعله، التّوقّف عن تناول المكسّرات أو الشّاي، أو كتابة بوست مقزّزٍ في صدق مشاعره على مواقع التّواصل الاجتماعيّ، أو قد يبكي إن سمحت له قدرته على التّعاطف.

ثمّ لا يتعب نفسه بعد ذلك بالتّفكير بالّذي يستطيع فعله لأجل هذه الطّفولة. أنا حزينٌ، طبعًا، لأجل كلّ الضّحايا، وليس الأمر متعلّقًا بموت الأطفال على هول وجلالة اجتماع هاتين الكلمتين "موت" و"أطفال"، بل يتعلّق كلّ ما أقوله في بقائهم أحياءً، وبقاء من حولهم أحياءً بعد حكايات الجوع والذّبح والإعاقة والتّشوّه والاعتقال والتّشرّد والاغتصاب والاعتداء الجائر.

اللّعنة! لماذا تذكّرت الآن فيديو الطّفل الغزّيّ الّذي يجيب عن سؤال المذيع عن متى كانت آخر مرّةٍ تذوّق فيها اللّحم؟ فأجابه الطّفل: شو يعني لحمة؟ ورائحة اللّحم البشريّ المشويّ تفوح زكيّةً كلّ عامٍ من غزّة... خضت نقاشاتٍ حادّةً عن مدى فبركة هذا الفيديو، حتّى أنّني ما عدت أخوض هذه النّقاشات حين اكتشفت أنّ من شاهدوه بحاجةٍ لأن يصدّقوه.


الجبناء لن يرثوا الأرض
"افعل شيئًا جيّدًا لطفلٍ واحدٍ قبل أن تموت، كي لا تموت". بهذه العبارة قد أنهي كلّ ما كتبته، لكنّني لست قادرًا على السّكوت عن انتقاد كلّ هذا الفزع الممتدّ فينا، الجبناء لن يرثوا هذه الأرض، وكما قال المسيح، الودعاء من سيفعلون، والوداعة قد تحتاج منك شجاعة بطلٍ... ليس ثمّة أكثر غلظةً وأنانيّةً من أن تكون جبانًا.

تنبيه: هذه البرامج لا تعلّب المواهب وحسب، بل الجراح، والبلدان، والجمهور، وحديثًا صارت تقدّم وجباتٍ جاهزةً من الطّفولة المقضومة بأضراس نفس الآلة الإعلاميّة الّتي تأكل النّاس والبلاد. علينا أن نتنبه إلى أنّنا منشدهون لآلاتٍ إعلاميّةٍ تلتهمنا وتعيد تكريرنا تمامًا، كما يحدث في سلسلة أفلام ألعاب الجوع Hunger Games.

إلى اللّقاء أيّتها المشاعر الصّادقة، ووداعًا أيّتها الأشياء الجيّدة الّتي تتركها وراءها الطّفولة... ستصبحين معلّباتٍ لها تاريخ صلاحيّةٍ.

أنهي هذا المقال برابطٍ فيديو يقدّم نموذجًا آخر من نماذج الطّفولة الّتي تمتلك موهبةً لن نستطيع فهمها... جكارةً في كلّ من هم بشّار الأسد، على اختلاف مواقعهم.



(شاعر فلسطيني من الأردن)

المساهمون