في سياقٍ آخر، قد يقطع الحديثَ أزيزُ الطائرات المغيرة، وتشوّشُ القنابل المتساقطة على مجريات المقابلة. لكنّ كلّ هذا يبدو هنا وكأنّه يأخذ مكانه الطبيعي في السياق المسترسل. إذ لا ينبطح أحد أرضاً في تلك اللقطة من فيلم "يوميات الزمن الحاضر" لـ"تجمّع أبو نضارة"، ولن تجد طاقم العمل وهو يتراكض في الأنحاء (كما هي العادة على القنوات الإخبارية) باحثين عن ملجأ خشية أن تكون القذيفة الآتية هي الخاتمة في فيلم قد لا يعرف به أحد.
الكادر ثابت، وابتسامة الضيف الهادئ/الثائر كأنّها اعتذار من المشاهد عن ضوضاء القصف في الخارج: "يلا، هلأ بتروء.. شي 5 دقايق".
لم تُتح لكثيرين فرصة حضور أعمال "تجمع أبو نضّارة" في صالات السينما (مؤخراً في "أشكال ألوان"، و"أشغال فيديو 2014" بيروت). ذلك أنّ جلّ إنتاج هذه الشركة الفنية السورية، كما تُعرّف عن نفسها، يُبثّ بالدرجة الأولى عبر فضاء الإنترنت على "فيميو\Vimeo"، و"فيسبوك". والموعد "الافتراضي" الأسبوعي على مدى الأعوام الثلاثة الماضية منذ بدء الثورة الشعبية في سوريا في 2011؛ لم يُخلفه أحد.
في أجواء ليلية، وبمصاحبة موسيقى سيمفونية رخيمة، ترتفع الكاميرا تدريجياً في قلب العاصمة دمشق لتُخرج لنا من العدم السياسي تمثال حافظ الأسد في "ساحة عرنوس"، وكأنّها تُعيد لقطة، لقطة، صبّ ذلك النُصب المُصمت لـ"القائد الخالد"، واقفاً هناك ببزته الإسمنتية، لثلاثة عقود، يواصل ما بدأه في الثمانينات، موجهاً بكفه سمت مدفعية عسكره نحو محافظات أخرى، وسوريين آخرين.
وثائقيات الهايكو (لحظة شعرية مكثفة بكلمات قليلة) التي تمرّست بها "أبو نضّارة" منذ 2010 (بضع ثوان إلى 5 دقائق)؛ تمنحنا "اللحظة" التسجيلية الخام لنفعل بها ما نشاء. لحظة تُشعِرُنا وكأنّ كل الزمن الآخر المحيط بها يدور دورته الطويلة تلك ليصنعها هي بالذات، ومن ثمّ، ينتهي.
ليست سلسلة بكائيات مسفوحة على عتبة المأساة المكرّسة، بقدر ما هي محاولة لتدارك غفوة العين الثالثة التي تنظر، عكس شقيقتيها، من داخل المشهد نحو الخارج والجمهور. فـ"فادي" مثلاً (إحدى الشهادات السينمائية) لم يدرك أنّه شاهد والده الشهيد في فيديو المجزرة، وهو الصحافي المحترف، إلى أن اتصلت به والدته وأخبرته بالنبأ، فأعاد على الفور استعراض الفيديو، ليرى أباه مسجّى بالفعل بين الجثث. رآه ثانية بعيون أخرى قرر لها هو سلفاً أنّها "لن تدمع اليوم"، كما قال.
أمّا من وطّن نفسه على جرعات مديدة من الأسى (50 دقيقة)، على اعتبار أنّ "يوميات الزمن الحاضر" فيلم سوري، "ولا يسعنا أن ننتظر من سوريا سوى الحزن"، كما همس أحد الحضور لصديقته قبل إطفاء الأنوار؛ سيباغته دون شك مشهد "دورة تصفيف الشعر العروس" التي حضرها جمع غفير مبتهج من النساء (الثكالى والأيامى) قبل استراحة "قصف" اضطرارية في اليوم التالي.
كذلك "دروس" شريط "الدولة الإسلامية للمبتدئين" (أحد مقاطع الفيلم) الذي يبادرنا بالحديث فيه أحد المبشرين بتلك "الدولة" قائلاً: "إزا صارت دولة إسلامية بهاد البلد (سوريا).."، وقبل أن يكمل جملته، تنطلق ضحكة من وراء الكاميرا، لا يجدّ المتحدث، الملتحي والرصين، أمامها بدّاً من الابتسام، وكبت ضحكته هو نفسه. وكأنه يدرك في قرارة ذاته، وسيجارته بين إصبعيه، عبثية هذا الطرح.
لا يفلت شريط "يوميات الزمن الحاضر" في بعض الأحيان بسهولة من كونه وليد "مونتاج" مطوّل لعدد من "الفيديوهات" التي سبق لجزء كبير من جمهور السينما أن شاهدها كوحدات فيلمية قائمة بذاتها. ناهيك عن غياب بعض المعلومات التعريفية عن بعض المشاهد التي قد يجهل المتابع العادي تفاصيل سياقها العام. وهي تفاصيل لا غنى عنها لتلقف الحالة الدرامية التي يقترحها علينا العمل في كل فصوله، خاصة عندما يكون الاعتماد على التكثيف البصري هو الإستراتيجية بألف ولام العهد.
جلبة "سندانس" كانت طارئة على "أبو نضّارة" (حاز أحد أفلامها جائزة لجنة التحكيم 2014). ولم يكن التكريم الدولي في واحد من أشهر منابر السينما المستقلة في العالم سوى ثمرة مستحقة لمثابرة إبداعية أساسها الهدوء والأفق الفكري المفتوح، وربما الاستقلال المادي الصارم. ولئن كان ثمة ما يجب الإشادة به حقاً في تجربة هذه المجموعة السينمائية "الناشطة" (تأسست في 2010)، إلى جانب أمور كثيرة، فهو الجرأة العالية على المكاشفة، وتقديم ما يمكن اعتباره مقاربة نزيهة لصورة الواقع مهما بلغت درجة مرارته، وبغض النظر عن الاعتبار السياسي الضيق دائماً.
فالمَشاهد التي كال الناس فيها الاتهامات ضد المتطرفين الوافدين والجيش الحر، أو نادوا فيها يائسين بالتدخل الأجنبي لإنقاذهم؛ لا تقلّ أهميّة عن مواكبة روتين الإجرام اليومي للنظام. مكاشفةٌ لا تجرؤ "البروباغاندا" التي يرفل فيها المقلب الآخر على التنطّح ولو لقدر يسير منها.