11 أكتوبر 2024
"استحقار" الشعوب.. الجزائر نموذجاً
إذا تجاوزنا المقدّمات الطويلة، وتخفّفنا من الدبلوماسية الزائفة، وسمّينا الأمور بمسمّياتها، فإننا سنحكم بثقةٍ أن ما يجري في الجزائر اليوم من إعادة ترشيح الرئيس، عبد العزيز بوتفليقة، لولايةٍ خامسة، إنما يمثل "استحقاراً" مكتمل الأركان لأكثر من اثنين وأربعين مليون جزائري. وإذا كنا نسأل الله عز وجل أن يَمُنَّ على بوتفليقة بالشفاء، وأن يمدّ في عمره، فإننا نضيف إلى ذلك تمنياتنا بابتعاده عن أعباء الحكم وضغوطه، ذلك أن هذا جيد لصحته وراحته، فضلاً عن أنه جيد للجزائر وشعبها. المشكلة أن الرئيس بوتفليقة الذي يكاد يكمل عشرين عاماً في منصب الرئاسة يأبى أن يتنازل عن الحكم، على الرغم من أنه مصابٌ بالشلل، ولم يظهر إلا نادراً على كرسيٍّ متحرّك، ولم يلق خطاباً عاماً منذ مايو/ أيار2012، وكانت آخر مرةٍ سمع الناس صوته، منهكاً، في إبريل/ نيسان 2014، وذلك عندما أعلن ترشّحه لولايةٍ رئاسيةٍ رابعة. أما في ترشّحه الحاضر للولاية الخامسة، فإن الناس لم يروْه، ولم يسمعوا منه، ولم يقدّم أوراق ترشّحه شخصياً، إذ تمَّ نقله على وجه السرعة للعلاج في جنيف، ويفرض تعتيم كامل على وضعه الصحي.
لا تقف المفارقات الصادمة في الجزائر عند صحة رئيسٍ يعاني من الأمراض منذ عام 2005، قبل دخوله مرحلة العجز عام 2012، ولا حتى عند تعديل الدستور على مقاسه ليترشّح مرة ثالثة عام 2009، بعد أن كان الدستور السابق يحدّد الولاية الرئاسية باثنتين، بل إنها تمضي أبعد من ذلك بكثير، لترسّخ معطى الاستحقار للشعب، عبر ترشيحه لولاية خامسة. مثلاً، يتربّع بوتفليقة، البالغ 82 عاماً، رئيساً على دولة شابَّةٍ متوسط عمر شعبها حوالي 28 عاماً، في حين أن قرابة 24 في المائة منهم تحت سن الخامسة عشرة. وعلى الرغم من أن الجزائر من الدول المصدّرة للنفط والغاز، ولديها احتياطات كبيرة منهما، إلا أن ربع الجزائريين يعيشون تحت خط الفقر. وحسب البنك الدولي، فإن معيار خط الفقر في الجزائر
يقاس بدولار ونصف الدولار يومياً للفرد، وهناك حوالي خمسة ملايين جزائري يعيشون على دولار يومياً، أي أنهم يعيشون فقراً مدقعاً. أما نسبة البطالة فتقترب من 12 في المائة، في حين تبلغ نسبة البطالة بين الشباب أكثر من 29 في المائة. ولا تتوقف الأمور عند ذلك الحد، فالبنية التحتية هشّة، والمرافق العامة مهترئة، ورؤوس الأموال تهرب إلى خارج الدولة. وإذا سألت عن أسباب ذلك كله، فإن الإجابة في أمريْن: الفساد الهائل وسوء الإدارة.
كل المعطيات المهولة السابقة لا يبدو أنها تثير فزع عصابة الحكم في الدولة العميقة. أما مسألة الخجل، فتلك مثالية مُفرطة في الحقل السياسي في عالمنا العربي. ويعلم القاصي قبل الداني أن الرئيس بوتفليقة لا يحكم فعلياً، منذ سنوات، وأن شقيقه الأصغر ومستشاره، سعيد بوتفليقة، هو من يدبر شؤون الحكم، بالتنسيق مع رئيس أركان الجيش الجزائري، أحمد قايد صالح. وقد عمل الاثنان، على مدى السنوات الأربع الماضية، والشهور الأخيرة، على التخلّص من أقوى منافسيهم في المؤسسات العسكرية والاستخباراتية والأمنية، وإحالتهم إلى التقاعد أو التحقيق. بمعنى آخر، ليس الرئيس بوتفليقة إلا واجهة أو ديكوراً لحكم عصابة، بل قل إنه "مومياء" يَحْكُمُ آخرون باسمها، بانتظار توافقهم على رئيسٍ آخر، أو حسم أحد تيارات الحكم المتشاكسة المعركة لصالحه.
أمام هذا المشهد العبثي الذي تعيشُه الجزائر، خرج عشرات آلاف الجزائريين، من كل الخلفيات الحزبية والفكرية والمهنية، إلى الشوارع، مطالبين بعدم ترشّح بوتفليقة مجدّداً، غير أن من وَطَّنوا أنفسهم على استحقار شعوبهم يظنون أنهم قادرون على المضي به، طوْعاً أم كرهاً. هنا برزت مفارقة جديدة. الرئيس بوتفليقة يعلن عبر رسالةٍ قرأها نيابة عنه مدير حملته الانتخابية، عبد الغني زعلان، أنه ينوي تنظيم انتخاباتٍ رئاسيةٍ مبكرة، في حال انتخابه لولاية خامسة، الشهر المقبل، ويتعهّد بعدم الترشح لها. وحسب الرسالة، سيدعو بوتفليقة بعد الانتخابات إلى "مؤتمر وطني" تناط به مسؤولية تحديد موعد الانتخابات المبكرة. إذا كان الأمر كذلك حقاً، فلماذا يترشح بوتفليقة أصلاً؟ أما لماذا يتحدّث بوتفليقة، أو من يتحدثون نيابة عنه، وكأنهم ضمنوا النجاح، على الرغم من المعارضة الشعبية الواسعة لترشّحه مجدداً، فذلك ليس سؤالاً معتبر في أغلب الدول العربية والعالمثالثية.
كان العرض السابق هو الجزرة، ولكن ثمّة عصاً أيضاً لمن عصى. تلك هي رسالة الوعيد التي أطلقها أحمد قايد صالح، الثلاثاء الماضي، في تهديده المبطن بالعودة إلى "سنوات الألم
والجمر" التي عاشتها الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، ونتج منها مقتل أكثر من مائتي ألف شخص، بالإضافة إلى خسائر أخرى لا تُعد ولا تُحصى. وحسب صالح، سيضمن الجيش الأمن والاستقرار في البلاد، ولن يسمح بالعودة إلى "حقبة سفك الدماء". المفارقة هنا أن "سنوات الألم والجمر" و"حقبة سفك الدماء" في الجزائر ترتّبت على إلغاء الجيش للانتخابات التشريعية، أواخر عام 1991، وفازت فيها جبهة الإنقاذ الإسلامية، لتبدأ "العشرية السوداء"، والتي تورّط فيها الجيش في مذابح وانتهاكات مروّعة، تماماً كما تورّطت فيها تنظيماتٌ متطرّفة. واليوم يحذر الجيش كل الشعب الجزائري بأنه لن يسمح بأن يمسّ بُنى الفساد وامتيازات الفاسدين.
باختصار، هذه المهزلة التي نشهد فصولها في الجزائر اليوم ما هي إلا تلخيص مُرٌّ لواقعنا العربي الآسن. وإذا كان هذا يجري في بلد المليون ونصف المليون شهيد، فلك أن تتخيّل كيف يكون الحال في غيره من بلدان عربية أخرى. وعلى الرغم من ذلك، فإن في هبة الشعب الجزائري السلمية والمدنية ضد هذا الهراء، ورفضه الانصياع لرغبة من يحسبوننا، نحن العرب، متاعاً يُتوارث، ما يُبقي جذوة الأمل في نفوسنا أن الخلاص من هذا الواقع المخزي ليس مستحيلاً. في السودان، ثَمَّةَ جذوة أمل أخرى لم تذبُل بعد. وحتى جذوات الأمل الأخرى التي يظن معسكر الثورات المضادة أنه خنق أنفاسها، فإنها لا زالت قادرة على إعادة بعث نفسها. قد يكون هذا حلماً بعيد المنال، لكنه قابلٌ للتحقق، ولو بعد حين، وإنْ طال.
لا تقف المفارقات الصادمة في الجزائر عند صحة رئيسٍ يعاني من الأمراض منذ عام 2005، قبل دخوله مرحلة العجز عام 2012، ولا حتى عند تعديل الدستور على مقاسه ليترشّح مرة ثالثة عام 2009، بعد أن كان الدستور السابق يحدّد الولاية الرئاسية باثنتين، بل إنها تمضي أبعد من ذلك بكثير، لترسّخ معطى الاستحقار للشعب، عبر ترشيحه لولاية خامسة. مثلاً، يتربّع بوتفليقة، البالغ 82 عاماً، رئيساً على دولة شابَّةٍ متوسط عمر شعبها حوالي 28 عاماً، في حين أن قرابة 24 في المائة منهم تحت سن الخامسة عشرة. وعلى الرغم من أن الجزائر من الدول المصدّرة للنفط والغاز، ولديها احتياطات كبيرة منهما، إلا أن ربع الجزائريين يعيشون تحت خط الفقر. وحسب البنك الدولي، فإن معيار خط الفقر في الجزائر
كل المعطيات المهولة السابقة لا يبدو أنها تثير فزع عصابة الحكم في الدولة العميقة. أما مسألة الخجل، فتلك مثالية مُفرطة في الحقل السياسي في عالمنا العربي. ويعلم القاصي قبل الداني أن الرئيس بوتفليقة لا يحكم فعلياً، منذ سنوات، وأن شقيقه الأصغر ومستشاره، سعيد بوتفليقة، هو من يدبر شؤون الحكم، بالتنسيق مع رئيس أركان الجيش الجزائري، أحمد قايد صالح. وقد عمل الاثنان، على مدى السنوات الأربع الماضية، والشهور الأخيرة، على التخلّص من أقوى منافسيهم في المؤسسات العسكرية والاستخباراتية والأمنية، وإحالتهم إلى التقاعد أو التحقيق. بمعنى آخر، ليس الرئيس بوتفليقة إلا واجهة أو ديكوراً لحكم عصابة، بل قل إنه "مومياء" يَحْكُمُ آخرون باسمها، بانتظار توافقهم على رئيسٍ آخر، أو حسم أحد تيارات الحكم المتشاكسة المعركة لصالحه.
أمام هذا المشهد العبثي الذي تعيشُه الجزائر، خرج عشرات آلاف الجزائريين، من كل الخلفيات الحزبية والفكرية والمهنية، إلى الشوارع، مطالبين بعدم ترشّح بوتفليقة مجدّداً، غير أن من وَطَّنوا أنفسهم على استحقار شعوبهم يظنون أنهم قادرون على المضي به، طوْعاً أم كرهاً. هنا برزت مفارقة جديدة. الرئيس بوتفليقة يعلن عبر رسالةٍ قرأها نيابة عنه مدير حملته الانتخابية، عبد الغني زعلان، أنه ينوي تنظيم انتخاباتٍ رئاسيةٍ مبكرة، في حال انتخابه لولاية خامسة، الشهر المقبل، ويتعهّد بعدم الترشح لها. وحسب الرسالة، سيدعو بوتفليقة بعد الانتخابات إلى "مؤتمر وطني" تناط به مسؤولية تحديد موعد الانتخابات المبكرة. إذا كان الأمر كذلك حقاً، فلماذا يترشح بوتفليقة أصلاً؟ أما لماذا يتحدّث بوتفليقة، أو من يتحدثون نيابة عنه، وكأنهم ضمنوا النجاح، على الرغم من المعارضة الشعبية الواسعة لترشّحه مجدداً، فذلك ليس سؤالاً معتبر في أغلب الدول العربية والعالمثالثية.
كان العرض السابق هو الجزرة، ولكن ثمّة عصاً أيضاً لمن عصى. تلك هي رسالة الوعيد التي أطلقها أحمد قايد صالح، الثلاثاء الماضي، في تهديده المبطن بالعودة إلى "سنوات الألم
باختصار، هذه المهزلة التي نشهد فصولها في الجزائر اليوم ما هي إلا تلخيص مُرٌّ لواقعنا العربي الآسن. وإذا كان هذا يجري في بلد المليون ونصف المليون شهيد، فلك أن تتخيّل كيف يكون الحال في غيره من بلدان عربية أخرى. وعلى الرغم من ذلك، فإن في هبة الشعب الجزائري السلمية والمدنية ضد هذا الهراء، ورفضه الانصياع لرغبة من يحسبوننا، نحن العرب، متاعاً يُتوارث، ما يُبقي جذوة الأمل في نفوسنا أن الخلاص من هذا الواقع المخزي ليس مستحيلاً. في السودان، ثَمَّةَ جذوة أمل أخرى لم تذبُل بعد. وحتى جذوات الأمل الأخرى التي يظن معسكر الثورات المضادة أنه خنق أنفاسها، فإنها لا زالت قادرة على إعادة بعث نفسها. قد يكون هذا حلماً بعيد المنال، لكنه قابلٌ للتحقق، ولو بعد حين، وإنْ طال.