منذ العنوان الذي يجمع بين شخصية شكسبيرية وصيغةِ عنوان روايةٍ دوستويفسكية، يبدأ كتاب "الإخوة هَملت" (الصادر مؤخراً عن "دار الجنوب" ضمن سلسلة "عيون المعاصرة"، تونس) في لعبة خلط بين عناصر ثقافية عدّة؛ الأسماء والعلاقات والأماكن والعصور، جمعيها تمتزج ببعضها في قِدر واحد صانعة مركّباً جديداً.
سنصطدم مع لعبة الخلط مرة أخرى قبل الدخول في المتن، إذ إن أبطال هذا العمل لهم تعريفات غير تلك التي نتداولها من التراجيديات الشيكسبيرية، فهملت أمير منفي - كما في الأصل - غير أن أباه هو الملك لير الذي يقتله أخوه مكبث ويتزوّج من الملكة ديدمونة، أم هملت.
شخصيات أخرى يزعزع حضورها كل فهم مسبق/ممكن مثل الشاعر مرلو (معاصر شكسبير) أو محمد عبد المطلب، وثمة شخصيات لم يسمّها في قائمة أبطاله سنلتقيها داخل العمل. كل شيء في عمل بن بريك لا هو كما نعرفه، ولا هو مختلف تماماً عنه، فكأن كل هذه المصافحات تدعو القارئ أن يكون بلا توقّعات، فجميعها باطلة مسبقاً.
ينقسم كتاب "الإخوة هملت" إلى 13 موقفاً، يتضمّن كل واحد منها متناً وهوامش سنفهم أنها ليست مجرّد تعليقات أو إضاءات جانبية أو خلفيات ضرورية لاكتمال تشكّل الأحداث في ذهن القارئ، بل إنها أيضاً سردٌ مواز، ففيها يحدّثنا المؤلف عن خياراته المثيرة في انتقاء أبطاله، إذ يقول "تداخلت في ذاكرتي المناظر والأبطال فصنعتُ لها مسرحاً واحداً. صلصلت الأشخاص حسب وقعهم عليّ (..) ستقرأ حكاية من تصوّري لا تمتّ بصلة إلى مسرح شكسبير إلا ما استقيته من درر وشّحنا بها التراجيديا العربية".
"التراجيديا العربية" هي إذن مبتغى بن بريك، وليست التراجيديات الشكسبيرية سوى ذريعة ومتكأ للتخييل. لعلها محاكاة ظريفة لما يحدث في الواقع اليوم: تراجيديا موسّعة فوق الخريطة العربية ليست سوى أشباح شخصيات دموية وُلدت في عقول غربية.
هذه التراجيديات المتداخلة يصوغها كاتب عُرف بلغته الساخرة التي يتخلّى عنها، لكن ليس بشكل كلّي، ليقترب من أسلوب ملحمي استعراضيّ يذكّر – إضافة إلى شكلانيات النص الواقع بين الهيكلة الحوارية للمسرح والبناءات الدرامية للرواية – بمناخات أعمال الكاتب التونسي محمود المسعدي.
ثمة لعبة أخرى تعترضنا في "الإخوة هملت"، إذ تحضر مرجعيات متعدّدة متشعّبة في النص، فلا ضوابط ولا نظام خطاب فيه، ما يجعل الأفكار تندفع إلى أقصى ممكناتها، فتتداعى لتربط حكاية شعبية تونسية ببعض ما ورد من أخبار الأدب العربي القديم أو تحيل إلى شخصية من الكلاسيكيات العالمية، وقد تستعير شيئاً من التاريخ السياسي الحديث.
يستثمر بن بريك مواقع الملك لير (المغدور) أو مكبث (الغادر) أو هاملت (صاحب الحق المتردّد) للتأمّل في الحكم؛ حكم تونس أو دانمركة كما في النص ما يمكن إسقاطه على أي فضاء سياسي آخر، وهو ينظر إليه من أكثر من زاوية ملوّثاً بالتزلّف والنفاق والغدر.
مقاطع كثيرة تذكّرنا بـ "أدب الديكتاتور" اللاتينوأميركي وهذياناته الهيروينية، ومن بينها إحالات صريحة في الهوامش كقول ديدمونة "سفينة تقلّ الملك لنرويجة حيث هيئ له جناح ليعيش خريفه كالبطريرك"، في نفس الوقت الذي تحيل فيه إلى ذاكرة جماعية قريبة لا بدّ أن تربط بين هذا الحديث وما حصل من أطوار الثورات العربية الأخيرة.
هذا الربط تدعمه أكثر من عبارة في أكثر من موضع، كقول هاملت (البنبريكي) "أكون أو لا أكون، فلا بد أن يستجيب القدر" أو "حدث ما حدث، صفعت مكبث وانقلبت الصفحة إلى خبر سرى في المملكة (..) صفعة كالسعفة الذهبية تناقلها الأثير"، فينصحه شبح الملك لير "هملت، لا تتباه بما أنجزت وأنت في نصف الطريق، فما يخبّئه النصف الثاني أتعبُ"، ومرة أخرى يضرب بن بريك المنتظر فيقول مكبث "فقع هملت عيني وتزوّج ديدمونة". إنه لا يريد لهذه التراجيديا أن تهدأ، بل يريدها أن تتشعّب أكثر.