31 مايو 2017
"الانتحار" بين العونيّين والبْياليّين
في احتفال أقاموه في مجمّع البيال في بيروت، حذر "البياليّون" بقيّة اللبنانيين من "الانتحار الاقتصادي". فعلوا ذلك بصفتهم ممثلّي هذا "الانتحار الاقتصادي اللبناني" الجاري على قدم وساق، بما أنّهم من أصحاب أرباح ريع الرأسمال المالي وتجار الأراضي والعقارات والمتعديّن على الأملاك العامة الذين يفرضون القتل الاقتصادي المتعمّد تجاه مصير باقي اللبنانيين. بعد ذلك، صدر بيان، ممهور من "تكتل التغيير والاصلاح" العونيّ، يفضح كل الكذب الموجود في ما يمثّله مهرجان "البيال"، بشكل تفصيلي. انتهى البيان بالقول إنّهم "تسلموا وطناً كانت ديونه، في أوائل التسعينات، بحدود الـ 2 مليار دولار وتراكمت مع السنين، نتيجة سوء إدارتهم شؤون الدولة ليتجاوز الدين العام حاليّاً عتبة الـ 70 مليار دولار. ويتباكون اليوم"! وكم أنّ ذلك صحيح بالفعل.
يظن من يقرأ بيان العونيين، حتمًاً، أنّ "تكتل التغيير والإصلاح" حزب يساري ثوري يعادي الطبقة الحاكمة، لا بل سيعتقد أنّ الثورة البلشفية اللبنانية ستحدث على يد "الجنرال" عون غداً أو بعد غدٍ على أبعد تقدير. وسيخيّر الأخير أعداءه "البياليّين" بين الموت شنقاً، أو، إذا كان رؤوفاً، تركهم يهربون إلى قبرص أحياء. لكن، فقط بعد تأميم كلّ ممتلكاتهم وأموالهم، المنقولة وغير المنقولة، ليحوّل لبنان بذلك إلى جمهورية اشتراكية كاملة. وسنستفيق، في اليوم التالي، على شّلال سوفياتي برتقالي، يتدفق من جبل لبنان باتجاه باقي المناطق الطرفية اللبنانيّة المحرومة من عكار إلى البقاع، وكلها مناطق لا يستطيع "الجنرال" النوم كل ليلة من دون البكاء على مصيرها البائس، كما هو معلوم.
لكن، ما حصل أنه لم يمض إلا أسبوعان اثنان، حتى انبرى صهر الجنرال، "العقيد بوخارين" باسيل، إلى إعلان نيّة حزبه السياسي في الذهاب إلى خيار "فرط النظام" والاتجاه نحو "الفيدرالية" (جريدة "الأخبار" البيروتيّة، 7 يوليو/تمّوز 2015) بما يعنيه ذلك من الثبات على التعلّق الوجداني العميق بكل المناطق اللبنانيّة. وترافق ذلك بمظاهرات كبيرة، رفعت فيها شعارات مذهبية عن "حقوق المسيحيين"، و"إعطائنا رئاسة الجمهورية أو قيادة الجيش"، و"تغيير آلية العمل في مجلس الوزراء"، انتهت كلها بمصادمات مع القوى الأمنية. بعدها أجرى "الجنرال" انسحاباً تكتيكيّاً في مقابلة صحافية ثانية، قال فيها "لم أقل أريد الفيدرالية. قلت، نريد الوحدة الوطنية، لكننا لا نقابل بهذا من الشركاء في الوطن... إذا كانت الفكرة بأنهم يعطلونا، حينها بلى سنطالب بالفيدرالية".(الديار، 12يوليو/ تمّوز 2015).
وفي حين أن كاتب المقال، هنا، كان سيكون فرحاً للغاية لو تحول لبنان، بين ليلة وضحاها، الى جمهورية اشتراكية سوفياتية عمّالية، فإن الحقيقة المرّة أنّ حزب "العونيين" بات ينافس حزب "البياليين"، في منسوب النفاق السياسي. فمشكلة ميشال عون والعائلة الكريمة ونوابه من "أصهرة" وأقارب وأصحاب المصالح من الرأسماليين الذين يلتفون من حوله، والذين يتشدّقون، طوال النهار، بما يسمى "حقوق المسيحيين"، أنهم يرغبون بحجز مكان آمن في شبكة المصالح التي يسيطر عليها تحالف سلطوي ضارب جذوره منذ عام 1990 على الأقل، وهو تحالف مكوّن من حيتان هائلة، مثل تيار المستقبل، الكوربوراتيّ، وحركة أمل، والتقدميّ الجنبلاطيّ الزبائنييْن، وحزب الله، وغيرهم. تتقاسم كلّ تلك الأحزاب اليمينيّة فيما بينها الموارد المنهوبة من دمّ وعرق العمال اللبنانيين المقيمين في لبنان، وفي الخارج، وهذه الموارد غنائم قائمة على النهب والسلب والتخويف لحقوق عامة اللبنانيين، سنوات وعقوداً. لكن، في الوقت نفسه، كل هذه الأطراف لا تسمح لعون، ومن يحيط به، بالغرس عميقاً في تربة السلطة، لأنّه ليس هناك أيّ لاعب مستعد لإعطاء الأخير من حصّته. لذلك، مرّ حزب "العونيين" الذي نادى "بالإصلاح والتغيير" بفترة كانت هويته ضبابية بالفعل، وهي فترة توهّم فيها أنه يستطيع فعلاً حجز مكاناً له، باستخدام خطاب يساري ناري، وهو خطاب كانت له مهمة وظيفيّة فعالة، في استمالة الجماهير الكادحة. لكن، ما ثبت أنه، عند أوّل فرصة حانت، تمّ إغراء عون فيها بإعطائه جزءاً يسيراً مما كان يحلم به، تخلّى عن كل ما كان يحاول المناضل الوزير شربل نحاس القيام به، وذلك في جلسة تبولة وحمّص وفتّوش مع رئيس برلمان كان ما زال دستوريّاً حينها.
التقلّب العوني الأخير الذي تفصله مدّة أسبوعين، بين خطاب مغالٍ في التقدمية الإصلاحيّة وخطاب رجعي شعبوي مذهبي، شبه-فاشي، ينادي "بالفيدرالية"، بغضّ النظر عن مدى القدرة على تنفيذ التهديد، كانت نتيجته إنزال آلاف من اللبنانيين إلى الشارع، هو تقلّب يبيّن، مجدداً وكما في كلّ مرة، أنّه يعبّر عن انتهازيته السياسية الكاملة. لكن، هذه المرة، كان الأمر عارضاً يشي بمرض خطير، يجب الالتفات إليه، هو أنّ جزءاً مهمّاً من الجماهير "العونيّة" باتت تشبه خطاب "جنرالها" بشكل عفوي، وباتت هي ترضى بهذه الانتهازية القصوى وسيلة سياسية، تعبّر عن أهدافها. فالمسألة ليست كما يطرحها أخصام "العونيين"، من "المستقبليين" مثلاً، بأنّها قضيّة شخص الرجل وخياراته المزاجيّة فقط، بل الأمر أعمق من ذلك بكثير، إذ أصبحت هناك ضغينة جماهيريّة، تعمل في الاتجاه المعاكس: "هذه" الجماهير، أيضاً، تريد ذاك "العون".
بات حزب "العونيين" يتجه، في تصلّبه الإيديولوجي اليميني المتزايد، إلى نوازع جديّة في فاشيتها. ويمكن القول إن التخليّ عن نحّاس كان تحديداً اللحظة التي قرّر فيها الحزب المذكور التخلّي عن أي جدية يسارية لديه، والسير بخطى يمينيّة حثيثة. وبهذا المعنى، فإنّ "العونيين" حزب يمّر الآن في مرحلة يمينيّة طفولية، فهو يمين، لكنه يمين يائس قبل أن يكون أيّ شيء آخر. هو يمين يبحث عن مكان له في سلطةٍ، راضٍ هو أن يكون على شاكلتها، على الرغم من أنّها لا تقبل به شريكاً في اقتسام الغنائم. وتحديداً، لأنه يمين يائس، فقد يصبح خطِراً على نفسه، وعلى غيره.
يفسر هذا الموقف تماماً التقلّب التام والخاطف بين إعلان العونيين تهديدهم الشمشوني بهدم الهيكل فوق رؤوس الجميع، بعد أن أعلنوا الحرب على "البيالييّن" الذي يساويهم البيان العوني "بالحريرية". وهذا أيضاً جزء آخر من اللعبة الشعبويّة الكاذبة، "فتيار المستقبل"، كما حلفاء عون، هم أيضاً من حزب "البياليين". ويعرف "العونيون" ذلك تماماً، وأنه ليس هناك في هذه المطحنة فرق بين 14 و8 آذار. وعلى الرغم من كلّ ذلك، تبقى المسألة الجوهرية في لبنان، وهي مدى جديّة الإرادة في قطع رأس الأفعى الحقيقية: سلطة حزب "البْياليين" الذي يشكّل موضوعيّاً عماد النظام اللبناني وقبطانه الحالي. وفي حين أنّ المهمة التاريخية لأيّ إصلاح يجب أن تكون في ضرب هذه السلطة، فإنّ "العونيين" اختاروا، على ما يبدو، أن يصبحوا جزءاً منها، مهما كان الثمن، وبأن يشاركوا في مهرجان "بيال" المقبل الذي سيقام حينها تأبيناً للبنان الذي يكون حينها قد "انتُحر" برصاصتين. فهنيئاً لهم ولنا جميعاً. أين لبنان؟ الله يرحمه.
لكن، ما حصل أنه لم يمض إلا أسبوعان اثنان، حتى انبرى صهر الجنرال، "العقيد بوخارين" باسيل، إلى إعلان نيّة حزبه السياسي في الذهاب إلى خيار "فرط النظام" والاتجاه نحو "الفيدرالية" (جريدة "الأخبار" البيروتيّة، 7 يوليو/تمّوز 2015) بما يعنيه ذلك من الثبات على التعلّق الوجداني العميق بكل المناطق اللبنانيّة. وترافق ذلك بمظاهرات كبيرة، رفعت فيها شعارات مذهبية عن "حقوق المسيحيين"، و"إعطائنا رئاسة الجمهورية أو قيادة الجيش"، و"تغيير آلية العمل في مجلس الوزراء"، انتهت كلها بمصادمات مع القوى الأمنية. بعدها أجرى "الجنرال" انسحاباً تكتيكيّاً في مقابلة صحافية ثانية، قال فيها "لم أقل أريد الفيدرالية. قلت، نريد الوحدة الوطنية، لكننا لا نقابل بهذا من الشركاء في الوطن... إذا كانت الفكرة بأنهم يعطلونا، حينها بلى سنطالب بالفيدرالية".(الديار، 12يوليو/ تمّوز 2015).
وفي حين أن كاتب المقال، هنا، كان سيكون فرحاً للغاية لو تحول لبنان، بين ليلة وضحاها، الى جمهورية اشتراكية سوفياتية عمّالية، فإن الحقيقة المرّة أنّ حزب "العونيين" بات ينافس حزب "البياليين"، في منسوب النفاق السياسي. فمشكلة ميشال عون والعائلة الكريمة ونوابه من "أصهرة" وأقارب وأصحاب المصالح من الرأسماليين الذين يلتفون من حوله، والذين يتشدّقون، طوال النهار، بما يسمى "حقوق المسيحيين"، أنهم يرغبون بحجز مكان آمن في شبكة المصالح التي يسيطر عليها تحالف سلطوي ضارب جذوره منذ عام 1990 على الأقل، وهو تحالف مكوّن من حيتان هائلة، مثل تيار المستقبل، الكوربوراتيّ، وحركة أمل، والتقدميّ الجنبلاطيّ الزبائنييْن، وحزب الله، وغيرهم. تتقاسم كلّ تلك الأحزاب اليمينيّة فيما بينها الموارد المنهوبة من دمّ وعرق العمال اللبنانيين المقيمين في لبنان، وفي الخارج، وهذه الموارد غنائم قائمة على النهب والسلب والتخويف لحقوق عامة اللبنانيين، سنوات وعقوداً. لكن، في الوقت نفسه، كل هذه الأطراف لا تسمح لعون، ومن يحيط به، بالغرس عميقاً في تربة السلطة، لأنّه ليس هناك أيّ لاعب مستعد لإعطاء الأخير من حصّته. لذلك، مرّ حزب "العونيين" الذي نادى "بالإصلاح والتغيير" بفترة كانت هويته ضبابية بالفعل، وهي فترة توهّم فيها أنه يستطيع فعلاً حجز مكاناً له، باستخدام خطاب يساري ناري، وهو خطاب كانت له مهمة وظيفيّة فعالة، في استمالة الجماهير الكادحة. لكن، ما ثبت أنه، عند أوّل فرصة حانت، تمّ إغراء عون فيها بإعطائه جزءاً يسيراً مما كان يحلم به، تخلّى عن كل ما كان يحاول المناضل الوزير شربل نحاس القيام به، وذلك في جلسة تبولة وحمّص وفتّوش مع رئيس برلمان كان ما زال دستوريّاً حينها.
التقلّب العوني الأخير الذي تفصله مدّة أسبوعين، بين خطاب مغالٍ في التقدمية الإصلاحيّة وخطاب رجعي شعبوي مذهبي، شبه-فاشي، ينادي "بالفيدرالية"، بغضّ النظر عن مدى القدرة على تنفيذ التهديد، كانت نتيجته إنزال آلاف من اللبنانيين إلى الشارع، هو تقلّب يبيّن، مجدداً وكما في كلّ مرة، أنّه يعبّر عن انتهازيته السياسية الكاملة. لكن، هذه المرة، كان الأمر عارضاً يشي بمرض خطير، يجب الالتفات إليه، هو أنّ جزءاً مهمّاً من الجماهير "العونيّة" باتت تشبه خطاب "جنرالها" بشكل عفوي، وباتت هي ترضى بهذه الانتهازية القصوى وسيلة سياسية، تعبّر عن أهدافها. فالمسألة ليست كما يطرحها أخصام "العونيين"، من "المستقبليين" مثلاً، بأنّها قضيّة شخص الرجل وخياراته المزاجيّة فقط، بل الأمر أعمق من ذلك بكثير، إذ أصبحت هناك ضغينة جماهيريّة، تعمل في الاتجاه المعاكس: "هذه" الجماهير، أيضاً، تريد ذاك "العون".
بات حزب "العونيين" يتجه، في تصلّبه الإيديولوجي اليميني المتزايد، إلى نوازع جديّة في فاشيتها. ويمكن القول إن التخليّ عن نحّاس كان تحديداً اللحظة التي قرّر فيها الحزب المذكور التخلّي عن أي جدية يسارية لديه، والسير بخطى يمينيّة حثيثة. وبهذا المعنى، فإنّ "العونيين" حزب يمّر الآن في مرحلة يمينيّة طفولية، فهو يمين، لكنه يمين يائس قبل أن يكون أيّ شيء آخر. هو يمين يبحث عن مكان له في سلطةٍ، راضٍ هو أن يكون على شاكلتها، على الرغم من أنّها لا تقبل به شريكاً في اقتسام الغنائم. وتحديداً، لأنه يمين يائس، فقد يصبح خطِراً على نفسه، وعلى غيره.
يفسر هذا الموقف تماماً التقلّب التام والخاطف بين إعلان العونيين تهديدهم الشمشوني بهدم الهيكل فوق رؤوس الجميع، بعد أن أعلنوا الحرب على "البيالييّن" الذي يساويهم البيان العوني "بالحريرية". وهذا أيضاً جزء آخر من اللعبة الشعبويّة الكاذبة، "فتيار المستقبل"، كما حلفاء عون، هم أيضاً من حزب "البياليين". ويعرف "العونيون" ذلك تماماً، وأنه ليس هناك في هذه المطحنة فرق بين 14 و8 آذار. وعلى الرغم من كلّ ذلك، تبقى المسألة الجوهرية في لبنان، وهي مدى جديّة الإرادة في قطع رأس الأفعى الحقيقية: سلطة حزب "البْياليين" الذي يشكّل موضوعيّاً عماد النظام اللبناني وقبطانه الحالي. وفي حين أنّ المهمة التاريخية لأيّ إصلاح يجب أن تكون في ضرب هذه السلطة، فإنّ "العونيين" اختاروا، على ما يبدو، أن يصبحوا جزءاً منها، مهما كان الثمن، وبأن يشاركوا في مهرجان "بيال" المقبل الذي سيقام حينها تأبيناً للبنان الذي يكون حينها قد "انتُحر" برصاصتين. فهنيئاً لهم ولنا جميعاً. أين لبنان؟ الله يرحمه.