لافتٌ للانتباه أن عدداً من أهمّ أفلام 2019 يدور حول تفجّر غضب الطبقات المَطحونة، بسبب الأوضاع الاقتصادية والفجوات الطبقية، كما في "جوكر" للأميركي تود فيليبس، الفائز بـ"الأسد الذهبي" في الدورة الـ76 (28 أغسطس/ آب ـ 7 سبتمبر/ أيلول 2019) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، والحاصل على نجاح تجاري كبير؛ وParasite للكوري الجنوبي بونغ جون ـ هو، الفائز بـ"السعفة الذهبية" في الدورة الـ72 (14 – 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان "كانّ" السينمائي. أو بسبب ضغطٍ سلطوي، يؤدّي إلى الانفجار، كما في "البؤساء" (Les Miserables)، باكورة الأعمال السينمائية للمخرج الفرنسي لادج لي (1980)، الفائز بجائزة لجنة التحكيم في الدورة نفسها لمهرجان "كانّ"، مصحوباً بقدر كبير من الجدل.
يحمل الفيلم عنوان رواية مشهورة للأديب الفرنسي فيكتور هوغو. لكن، رغم أنّه ليس اقتباساً منها، إلا أنّ هناك عوامل عديدة تربطه بها، كالإشارة المباشرة إلى الرواية في الفيلم (مرّتان)، وجملة الختام، المكتوبة على شاشة سوداء، عن فساد السلطة الذي يؤثّر في المحكومين. كذلك فإنّ أحداث العملين تدور في "مونتفيرمِل"، إحدى ضواحي باريس (بداية القرن الـ19 في الرواية، وعام 2018 في الفيلم). لكن الرابط الأهمّ بينهما كامنٌ في تناولهما أوضاع فرنسا. فهوغو يؤرّخ لما رآه وعاشه في إحدى موجات الثورة الفرنسية، ولادج لي يتنبأ بحراكٍ وثورة "بؤساء" أخرى، أكثر عنفاً ودموية وحدّة هذه المرّة.
تدور أحداث الفيلم في يومين وليلة. في مشهد "ما قبل التترات"، يُحدِّد لادج لي بوضوح زمن تلك الأحداث ومكانها: باريس، في أثناء بطولة كأس العالم في كرة القدم 2018. يتحدّث الناس عن لاعبي كرة القدم، ويحتفي أفارقة فرنسا المطحونون بلاعبين أمثال عثمان ديمبِلِي وكيليان مْبَابّي، ذوَي البشرة السمراء. بعد ذلك، يمرّ الفيلم في ثلاث مراحل: تقديم، ضغط، انفجار.
في التقديم (30 دقيقة)، هناك الشرطي ستيفن (داميان بونّار)، المنضمّ لتوّه إلى وحدة مكافحة الجرائم في "مونتفيرمِل"، الذي يقوم برحلة بالسيارة مع زميليه الشرطيين كريس (ألكسيس ماننتي) وغْوَادا (دجبريل زونغا). هناك أيضاً الانتقال، بإيقاعٍ لاهث، بين عالم تلك الضاحية الصغيرة وعصاباتها، ومساحات الصراع فيها بين مسلمين ذوي أصول أفريقية، وروس متعصّبين، ومراهقين ينشأون في ظلّ عنف الشرطة وعنف العصابات في آن واحد. في هذه المرحلة، يبدو الفيلم أكثر حداثة من (La Haine 1995) للفرنسي ماتيو كاسوفيتز، الذي يروي سِيَر 3 مراهقين في يومٍ واحد، في الضواحي الباريسية، و"يوم التدريب" (2001) للأميركي أنطوان فوكا، الذي تُحدَّد مساحته الزمنية باليوم الأول في حياة ضابط شرطة، ينضمّ إلى وحدة مكافحة المخدرات، ويكتشف مع زميل مخضرم عالماً خفياً لم يكن يدري بوجوده.
في المرحلة الثانية من "البؤساء"، تتعقّد الأمور ببطء، وتبلغ نزاعات الضواحي حدّ الانفجار الأكبر، بسبب حادث عارض، يتمثّل بسرقة "أسد صغير" (شبل). المميّز في هذه المرحلة ذكاء السيناريو (جوردانو جِدرْلي وألكسيس ماننتي ولادج لي) في الاستفادة من كلّ التفاصيل في الثلث الأول من الفيلم، لتكون جزءاً من حكاية صراعات السيطرة على الحيّ، وعلاقات المراهقين بعضهم ببعض، بالإضافة إلى فتى يملك كاميرا "درون"، يتلصّص بها على الأحداث، وعلى أمور متناثرة، تصبح ذات قيمة كبيرة، تدفع الحكاية إلى مزيد من الشحن والتعقيد، فيتغيّر مزاج الفيلم نفسه، ويُصبح أكثر سوداوية، لكن من دون افتعال، وتنكشف تفاصيل الشخصيات والمجموعات أكثر فأكثر، وتكون الضحية "بؤساء" الفيلم، الذين ليسوا، كما يرى لادج لي، أبرياء بالكامل، بل الأقلّ عنفاً وسوءاً في عالمِ اليوم. كان يُمكن أن ينتهي الفيلم مع المرحلة الثانية، كتأريخ للمجتمع، والتقاطٍ متماسك لشكله، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، في لحظة مُعاصرة، تُروى في يومٍ واحد. لكن، مع الفصل الثالث، وبداية يوم آخر، تنتقل الأمور إلى نقطة "انفجارية" غير متوقّعة، ممتلئة بالغضب والشحن والحِدة والعُنف.
اقــرأ أيضاً
تحمل نبوءة لادج لي عن مستقبلٍ قريب، لا تكون "الثورة" فيها شاعرية، كما عاشها وكتبها فيكتور هوغو، ولا يتقبّل الثائرون كونهم ضحايا السلطة من دون ردّة فعل، بل تقلب "ثورتُهم" الطاولةَ على الجميع، فلا يَسلم أحد. لعلّ من النادر فعلاً أن يشاهد المرء ثلث ساعة سينمائية نابضة بالغضب، كخِتام "بؤساء" لادج لي، الذي يُعتَبر أحد أفضل أفلام 2019.
يحمل الفيلم عنوان رواية مشهورة للأديب الفرنسي فيكتور هوغو. لكن، رغم أنّه ليس اقتباساً منها، إلا أنّ هناك عوامل عديدة تربطه بها، كالإشارة المباشرة إلى الرواية في الفيلم (مرّتان)، وجملة الختام، المكتوبة على شاشة سوداء، عن فساد السلطة الذي يؤثّر في المحكومين. كذلك فإنّ أحداث العملين تدور في "مونتفيرمِل"، إحدى ضواحي باريس (بداية القرن الـ19 في الرواية، وعام 2018 في الفيلم). لكن الرابط الأهمّ بينهما كامنٌ في تناولهما أوضاع فرنسا. فهوغو يؤرّخ لما رآه وعاشه في إحدى موجات الثورة الفرنسية، ولادج لي يتنبأ بحراكٍ وثورة "بؤساء" أخرى، أكثر عنفاً ودموية وحدّة هذه المرّة.
تدور أحداث الفيلم في يومين وليلة. في مشهد "ما قبل التترات"، يُحدِّد لادج لي بوضوح زمن تلك الأحداث ومكانها: باريس، في أثناء بطولة كأس العالم في كرة القدم 2018. يتحدّث الناس عن لاعبي كرة القدم، ويحتفي أفارقة فرنسا المطحونون بلاعبين أمثال عثمان ديمبِلِي وكيليان مْبَابّي، ذوَي البشرة السمراء. بعد ذلك، يمرّ الفيلم في ثلاث مراحل: تقديم، ضغط، انفجار.
في التقديم (30 دقيقة)، هناك الشرطي ستيفن (داميان بونّار)، المنضمّ لتوّه إلى وحدة مكافحة الجرائم في "مونتفيرمِل"، الذي يقوم برحلة بالسيارة مع زميليه الشرطيين كريس (ألكسيس ماننتي) وغْوَادا (دجبريل زونغا). هناك أيضاً الانتقال، بإيقاعٍ لاهث، بين عالم تلك الضاحية الصغيرة وعصاباتها، ومساحات الصراع فيها بين مسلمين ذوي أصول أفريقية، وروس متعصّبين، ومراهقين ينشأون في ظلّ عنف الشرطة وعنف العصابات في آن واحد. في هذه المرحلة، يبدو الفيلم أكثر حداثة من (La Haine 1995) للفرنسي ماتيو كاسوفيتز، الذي يروي سِيَر 3 مراهقين في يومٍ واحد، في الضواحي الباريسية، و"يوم التدريب" (2001) للأميركي أنطوان فوكا، الذي تُحدَّد مساحته الزمنية باليوم الأول في حياة ضابط شرطة، ينضمّ إلى وحدة مكافحة المخدرات، ويكتشف مع زميل مخضرم عالماً خفياً لم يكن يدري بوجوده.
في المرحلة الثانية من "البؤساء"، تتعقّد الأمور ببطء، وتبلغ نزاعات الضواحي حدّ الانفجار الأكبر، بسبب حادث عارض، يتمثّل بسرقة "أسد صغير" (شبل). المميّز في هذه المرحلة ذكاء السيناريو (جوردانو جِدرْلي وألكسيس ماننتي ولادج لي) في الاستفادة من كلّ التفاصيل في الثلث الأول من الفيلم، لتكون جزءاً من حكاية صراعات السيطرة على الحيّ، وعلاقات المراهقين بعضهم ببعض، بالإضافة إلى فتى يملك كاميرا "درون"، يتلصّص بها على الأحداث، وعلى أمور متناثرة، تصبح ذات قيمة كبيرة، تدفع الحكاية إلى مزيد من الشحن والتعقيد، فيتغيّر مزاج الفيلم نفسه، ويُصبح أكثر سوداوية، لكن من دون افتعال، وتنكشف تفاصيل الشخصيات والمجموعات أكثر فأكثر، وتكون الضحية "بؤساء" الفيلم، الذين ليسوا، كما يرى لادج لي، أبرياء بالكامل، بل الأقلّ عنفاً وسوءاً في عالمِ اليوم. كان يُمكن أن ينتهي الفيلم مع المرحلة الثانية، كتأريخ للمجتمع، والتقاطٍ متماسك لشكله، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، في لحظة مُعاصرة، تُروى في يومٍ واحد. لكن، مع الفصل الثالث، وبداية يوم آخر، تنتقل الأمور إلى نقطة "انفجارية" غير متوقّعة، ممتلئة بالغضب والشحن والحِدة والعُنف.
تحمل نبوءة لادج لي عن مستقبلٍ قريب، لا تكون "الثورة" فيها شاعرية، كما عاشها وكتبها فيكتور هوغو، ولا يتقبّل الثائرون كونهم ضحايا السلطة من دون ردّة فعل، بل تقلب "ثورتُهم" الطاولةَ على الجميع، فلا يَسلم أحد. لعلّ من النادر فعلاً أن يشاهد المرء ثلث ساعة سينمائية نابضة بالغضب، كخِتام "بؤساء" لادج لي، الذي يُعتَبر أحد أفضل أفلام 2019.