04 أكتوبر 2024
"التآمر" ضد الفواكه المصرية
كنت، في عام 2008 وحتى 2010، أعمل في شركة مقاولاتٍ في مجال إنشاءات محطات مياه الشرب وشبكات وإنشاءات الصرف الصحي والمعالجة للصرف الصحي. وكان، بحكم عملي، مهندس تشطيب ومتابعة يتحتم عليّ كل أسبوعين المرور على كل المشروعات التي تنفذها الشركة في محافظات الصعيد، وكان عليَّ متابعة معدلات الأداء ومعرفة أسباب التأخير وتحديث البرنامج الزمني لكل مشروع، بجانب إعداد البرامج الزمنية للمشروعات التي كانت الشركة تتعاقد على تنفيذها مع الحكومة.
وعرفت من سفري المتكرّر لمحافظات الصعيد أن توفير مياه الشرب النظيفة ووجود شبكة للصرف الصحي حلم صعب بعيد المنال، وقد وصل إلى درجة المستحيل، قرى مصر فيها مياه للشرب، لكن أغلبها، سواء في وجه بحري أو الصعيد، تعاني من عدم وجود شبكات للصرف الصحي فيها. وزاد الطين بلةً زيادة العشوائيات في قرى مصر، وتحوّلها إلى كيان مشوّه، لا هو قريه ولا هو مدينة، فالحارات الضيقة نفسها التي كانت بين البيوت الطينية هي الحارات الضيقة نفسها بين بيوت الخرسانة المسلحه المرتفعة لعدة طوابق، ومعظمها قرى تعتمد في تصريف مياه الصرف الصحي على إنشاء الخزانات الأرضية (الترنشات)، ونزحها كل فترة وتفريغها في المصارف الصحية الزراعية.
كانت هناك أسباب كثيرة لتأخير تنفيذ مشروعات المياه والصرف الصحي ومحطات المعالجة، كان أهمها غياب السيولة، وتأخر صرف الحكومة للمستخلصات والمستحقات، فتضطر بالطبع شركات المقاولات لوقف العمل أو تأخير وتيرته، حتى تتدفق المستحقات مرّة أخرى، خصوصاً أن مشروعات المياه والصرف الصحي كانت مرتبطةً بالأعمال الدعائية للحزب الوطني، قبل ثورة يناير/ كانون الثاني2011، فقد لاحظت أن حسني مبارك كان، أحياناً، يفتتح مشروعات الصرف الصحى نفسها في الصعيد كل عام، المحطات نفسها التي لم يكتمل إنشاؤها، ولم تعمل بعد بكامل طاقتها، مع دعايةٍ إعلاميةٍ ضخمة كل ساعة في وسائل الإعلام عن الإنجازات الكبرى التي لم يتحقق مثلها في تاريخ مصر كله.
هناك شيء آخر، لفت نظري في أثناء عملي في تلك الفترة، فقد كانت هناك مشكلات أيضاً من مياه الري التي كانت تقل عاماً بعد عام، وهو ما كان يدفع الفلاحين إلى الري من مياه الصرف الصحي قبل معالجتها. وفي أحسن تقدير، كان الفلاحون يقومون بالري من المصارف الزراعية التي تحتوي كذلك على مياه صرف صحي وصناعي غير معالج بالوسائل المناسبة، وغير آمن صحّياً.
وباختصار شديد لكيفية عمل منظومة الصرف الصحي في مصر، أن يتم تجميع مياه الصرف الصحي من خلال المطابق والشبكات إلى أن تصل إلى محطات الرفع التي تضخها من خلال خطوط طرد إلى محطات المعالجة الثنائية التي تلقيها في المصارف الزراعية، أو يتم ضخها إلى الصحراء بدون معالجة إلى "خور" لتمتصها رمال الصحراء وتتجمع، بعد سنواتٍ في آبار مياه قد تكون صالحةً للزراعة، بعد فلترة الرمال لها عدة سنوات.
وعلى الرغم من أن هذه الطرق تم إيقاف العمل بها في معظم دول العالم المتقدم التي تعيد
معالجة مياه الصرف الصحي "معالجة ثلاثية"، ليعاد استخدامها في الزراعة بشكل آمن، وأحياناً يتم استخدام تكنولوجيا أحدث وأقوى، لتحويلها إلى مياه صالحة للشرب أكثر نقاءً من مياه الأنهار والأمطار. ولكن في مصر لم يتم التوسع في بناء المحطات التي تستخدم تكنولوجيا المعالجة الثلاثية، وتوجد محطات معدودة للمعالجة الثلاثية، لكنها لا تزال في مرحلة مشروعات الغابات الشجرية في الطور التجريبي، ولا نزال نعتمد على المعالجة الثنائية، وإلقاء مياه الصرف الصحي في المصارف الزراعية أو الوسيلة القديمة بإلقائها في الصحراء من دون معالجة.
يعلم الكل أنه يتم الري مباشرة من مياه الصرف الصحي غير المعالج، أو من مياه المصارف الزراعية المليئة بالأملاح والكيماويات ومياه الصرف الصحي والصناعي غير الصالحة للري. ولذلك، من الطبيعي أن تحتوي المنتجات الزراعية على مواد كيميائية ضارّة، وأن تصيب من يتناولها أمراضٌ عديدة. يعلم الجميع ذلك، لكنها نظرية المؤامرة التي من السهل تفسير كل شيء بها، فبدلاً من البحث عن المشكلة وأسبابها وطرق الحل، يكون من الأسهل الحديث عن مؤامرات العالم كله ضد الفواكه المصرية. وعلى الرغم من ازدياد معدلات أمراض الكبد والجهاز الهضمي، في مصر، وعلى الرغم من أن الحكومات المتعاقبة تعلم أن لاستخدام مياه الصرف الصحي في الري دورا كبيرا في ذلك، إلا أن استخدام تفسيرات المؤامرة على الفواكه والخضروات المصرية هو التفسير الأسهل الذي يجيده النظام الحاكم وأبواقه، فالحديث عن نظريات المؤامرة والحصار الاقتصادي لن يكلف شيئاً، ولن يلزم ببدء الإصلاح والتطوير، ولا يستلزم تشديد الرقابة الصحية على المنتجات الزراعية، وإلا فسيدفع إلى تطوير منظومةٍ معالجةٍ المياه أو البحث عن طرق جديدة للري أو الاستفادة بمياه الأمطار والسيول، لمعالجة نقص المياه الصالحة للرّي، ولا مانع من إنكار استخدام مياه الصرف الصحي في الري من دون معالجة، على الرغم من أن الجميع يعلم أنه يحدث، ويتم التوسع فيه كل يوم.
إنه المنطق نفسه الذي يجعل الحكومة المصرية تسمح ببناء عشوائياتٍ، لتجنب المطالبة بتوفير مساكن آدمية، ثم الشكوى بعد ذلك من العشوائيات التي أنشأتها، ولا مانع من إنشاء عدة مشروعاتٍ، لنقل عدة أسر من العشوائيات، ثم التصوير معهم في أثناء الإفطار، على الرغم من أن معظم مصر أصبحت عشوائياتٍ، يعيش فيها ملايين الأسر، فالفساد المستوطن يسمح بتوالد العشوائيات.
وهو المنطق الأحمق نفسه الذي يسمح بتعلية المباني في المدن الجديدة، بغرض جمع مزيد من الأموال من جيوب المصريين. ولكن، لا أحد يضع في اعتباره الآثار الكارثية في زيادة الأحمال على المرافق والطرق في تلك المدن الجديدة، بخلاف قبح المنظر، فهكذا تم تشويه مناطق وتدميرها، مثل مدينة نصر ومصر الجديدة، إنها الدولة نفسها التي تصنع القوانين واستثناءاتها.
وعرفت من سفري المتكرّر لمحافظات الصعيد أن توفير مياه الشرب النظيفة ووجود شبكة للصرف الصحي حلم صعب بعيد المنال، وقد وصل إلى درجة المستحيل، قرى مصر فيها مياه للشرب، لكن أغلبها، سواء في وجه بحري أو الصعيد، تعاني من عدم وجود شبكات للصرف الصحي فيها. وزاد الطين بلةً زيادة العشوائيات في قرى مصر، وتحوّلها إلى كيان مشوّه، لا هو قريه ولا هو مدينة، فالحارات الضيقة نفسها التي كانت بين البيوت الطينية هي الحارات الضيقة نفسها بين بيوت الخرسانة المسلحه المرتفعة لعدة طوابق، ومعظمها قرى تعتمد في تصريف مياه الصرف الصحي على إنشاء الخزانات الأرضية (الترنشات)، ونزحها كل فترة وتفريغها في المصارف الصحية الزراعية.
كانت هناك أسباب كثيرة لتأخير تنفيذ مشروعات المياه والصرف الصحي ومحطات المعالجة، كان أهمها غياب السيولة، وتأخر صرف الحكومة للمستخلصات والمستحقات، فتضطر بالطبع شركات المقاولات لوقف العمل أو تأخير وتيرته، حتى تتدفق المستحقات مرّة أخرى، خصوصاً أن مشروعات المياه والصرف الصحي كانت مرتبطةً بالأعمال الدعائية للحزب الوطني، قبل ثورة يناير/ كانون الثاني2011، فقد لاحظت أن حسني مبارك كان، أحياناً، يفتتح مشروعات الصرف الصحى نفسها في الصعيد كل عام، المحطات نفسها التي لم يكتمل إنشاؤها، ولم تعمل بعد بكامل طاقتها، مع دعايةٍ إعلاميةٍ ضخمة كل ساعة في وسائل الإعلام عن الإنجازات الكبرى التي لم يتحقق مثلها في تاريخ مصر كله.
هناك شيء آخر، لفت نظري في أثناء عملي في تلك الفترة، فقد كانت هناك مشكلات أيضاً من مياه الري التي كانت تقل عاماً بعد عام، وهو ما كان يدفع الفلاحين إلى الري من مياه الصرف الصحي قبل معالجتها. وفي أحسن تقدير، كان الفلاحون يقومون بالري من المصارف الزراعية التي تحتوي كذلك على مياه صرف صحي وصناعي غير معالج بالوسائل المناسبة، وغير آمن صحّياً.
وباختصار شديد لكيفية عمل منظومة الصرف الصحي في مصر، أن يتم تجميع مياه الصرف الصحي من خلال المطابق والشبكات إلى أن تصل إلى محطات الرفع التي تضخها من خلال خطوط طرد إلى محطات المعالجة الثنائية التي تلقيها في المصارف الزراعية، أو يتم ضخها إلى الصحراء بدون معالجة إلى "خور" لتمتصها رمال الصحراء وتتجمع، بعد سنواتٍ في آبار مياه قد تكون صالحةً للزراعة، بعد فلترة الرمال لها عدة سنوات.
وعلى الرغم من أن هذه الطرق تم إيقاف العمل بها في معظم دول العالم المتقدم التي تعيد
يعلم الكل أنه يتم الري مباشرة من مياه الصرف الصحي غير المعالج، أو من مياه المصارف الزراعية المليئة بالأملاح والكيماويات ومياه الصرف الصحي والصناعي غير الصالحة للري. ولذلك، من الطبيعي أن تحتوي المنتجات الزراعية على مواد كيميائية ضارّة، وأن تصيب من يتناولها أمراضٌ عديدة. يعلم الجميع ذلك، لكنها نظرية المؤامرة التي من السهل تفسير كل شيء بها، فبدلاً من البحث عن المشكلة وأسبابها وطرق الحل، يكون من الأسهل الحديث عن مؤامرات العالم كله ضد الفواكه المصرية. وعلى الرغم من ازدياد معدلات أمراض الكبد والجهاز الهضمي، في مصر، وعلى الرغم من أن الحكومات المتعاقبة تعلم أن لاستخدام مياه الصرف الصحي في الري دورا كبيرا في ذلك، إلا أن استخدام تفسيرات المؤامرة على الفواكه والخضروات المصرية هو التفسير الأسهل الذي يجيده النظام الحاكم وأبواقه، فالحديث عن نظريات المؤامرة والحصار الاقتصادي لن يكلف شيئاً، ولن يلزم ببدء الإصلاح والتطوير، ولا يستلزم تشديد الرقابة الصحية على المنتجات الزراعية، وإلا فسيدفع إلى تطوير منظومةٍ معالجةٍ المياه أو البحث عن طرق جديدة للري أو الاستفادة بمياه الأمطار والسيول، لمعالجة نقص المياه الصالحة للرّي، ولا مانع من إنكار استخدام مياه الصرف الصحي في الري من دون معالجة، على الرغم من أن الجميع يعلم أنه يحدث، ويتم التوسع فيه كل يوم.
إنه المنطق نفسه الذي يجعل الحكومة المصرية تسمح ببناء عشوائياتٍ، لتجنب المطالبة بتوفير مساكن آدمية، ثم الشكوى بعد ذلك من العشوائيات التي أنشأتها، ولا مانع من إنشاء عدة مشروعاتٍ، لنقل عدة أسر من العشوائيات، ثم التصوير معهم في أثناء الإفطار، على الرغم من أن معظم مصر أصبحت عشوائياتٍ، يعيش فيها ملايين الأسر، فالفساد المستوطن يسمح بتوالد العشوائيات.
وهو المنطق الأحمق نفسه الذي يسمح بتعلية المباني في المدن الجديدة، بغرض جمع مزيد من الأموال من جيوب المصريين. ولكن، لا أحد يضع في اعتباره الآثار الكارثية في زيادة الأحمال على المرافق والطرق في تلك المدن الجديدة، بخلاف قبح المنظر، فهكذا تم تشويه مناطق وتدميرها، مثل مدينة نصر ومصر الجديدة، إنها الدولة نفسها التي تصنع القوانين واستثناءاتها.