كلّ هذه الكراهيات
ينظّم مستوطنون إسرائيليون تظاهراتٍ عند معبر كرم أبو سالم مع قطاع غزّة، يطالبون فيها بمنع دخول المساعدات إلى أهالي غزّة المحاصرين، يتجمعون حاملين أعلام دولة الاحتلال، يصيحون بخطابات الكراهية ضد الفلسطينيين، يهتفون أحياناً أيضا ضد حكومتهم المتخاذلة من وجهة نظرهم، يصبّون اللعنات على "العالم المتآمر" على الإسرائيليين، ويحاول الحفاظ على حياة من تبقّوا من الفلسطينيين، بل ويطلقون السباب ضد الرئيس الأميركي وزعماء أوروبا المتعاطفين مع سكان غزة (طبقا لوجهة نظرهم).
بدأ بعض هؤلاء في استخدام العنف ضد شاحنات تحمل مساعدات إلى أهل غزّة، وحاولت الشرطة الاسرائيلية منعهم على استحياء، خصوصا مع وجود كاميرات وسائل الإعلام الدولية. وبالرغم من أن عدد الشاحنات شحيحٌ، ولا يكفي الحد الأدنى من المتطلبّات الأساسية، إلا أن تلك المجموعات من المتطرّفين تتهم حكوماتهم بالتهاون والتفريط عند السماح بذلك العدد الزهيد من الشاحنات، فيزعمون أن السماح بدخول تلك اللقيمات يساهم في دعم الإرهاب، وإبقاء حركة حماس على قيد الحياة.
يمثل هؤلاء المتطرّفون اتجاهاً كبيراً داخل دولة الاحتلال. ورغم خطابهم الفاشي الصريح، إلا أنهم يمثلون المزاج العام المتطرّف في إسرائيل، وهم الكتلة التصويتية التي تأتي بأحزاب اليمين الصهيوني المتطرّف، مثل البيت اليهودي وكاخ وحزب عظمة يهودية، الأحزاب والمجموعات التي تطالب، صراحة ومن دون خجل، بإبادة الفلسطينيين أو ترحيلهم، وهي أكثر تطرّفاً من حزب الليكود الذي يتم تصنيفه حزباً متطرّفاً.
يعتبر هؤلاء الأحزاب اليسارية أو المعتدلة نسبياً خونة وطابوراً خامساً وداعمين للإرهاب. تسكنهم أجواء نظرية المؤامرة بأن العالم يتآمر عليهم لمنعهم من قيام دولة إسرائيل الكبرى أو يعرقل طرد (وإبادة) العرب الذين يعيشون على "أرض الميعاد". يرفضون فكرة السلام أو حلّ الدولتين، ويرون أن من يروّج ذلك داخل إسرائيل خائن لوطنه ودينه ومفرّطٌ في حقوق الأمة اليهودية.
أحيانا تكون مشاعر الكراهية والرغبة في القضاء على الآخر موجودة أيضا لدى أبناء الوطن الواحد والدين الواحد والأصل الواحد
يصنّف هؤلاء الفاشيون المتعصّبون أنفسهم بالوطنيين ومحبّي الدولة، أنصار الحلم الصهيوني، ربما يطلق عليهم بعضهم هناك لقب المواطنين الشرفاء، أو الغيورين على دينهم ووطنهم، ويرمون على أنفسهم صفاتٍ كثيرة كهذه لتعظيم الذات، وهذا ليس سبّة كما يحدُث في بعض أوساطنا، فهم يفتخرون بصهيونيّتهم، وكلما كان الإسرائيلي أكثر صهيونية من أخيه الصهيوني كان أكثر فخرا بذاته.
من المؤسف حقاً أن يكون هناك بشرٌ على الكوكب نفسه بتلك البشاعة، لا يكتفون بكل ما اقترفوه من جرائم وقتل وتهجير وإبادة جماعية منذ 1948، وحالياً لا يكتفون بتلك المجازر التي ارتكبوها في غزّة، بل يعملون من أجل منع المساعدات والغذاء على من بقي منهم على الحياة، وهي مساعداتٌ شحيحة لا تسدّ رمقاً.
قادتني تلك الملاحظات إلى ذكرياتٍ كئيبة تعود إلى سنوات طويلة، ربما يرى بعضهم أنه لا وجه للمقارنة، ولكن هناك نسبة ما من الأجزاء المشتركة في وجهة نظري، فللأسف أحيانا تكون مشاعر الكراهية والرغبة في القضاء على الآخر موجودة أيضا لدى أبناء الوطن الواحد والدين الواحد والأصل الواحد.
تذكّرتُ مثلاً مصطلح المواطنين الشرفاء أو الطرف الثالث الذي كان يُستخدم كثيراً إبان فترة الثورة في مصر 2011 – 2013، فقد كانت هناك مجموعات تظهر فجأة وتختفي، وقد تهاجم الاعتصامات أو تطلق النار على المعتصمين أو تفتعل العنف، ثم ينتهي الأمر بمقتل عدة متظاهرين أو معتصمين من دون تحقيقات جادّة.
هل المقارنة ظالمة؟ نعم... لكن ألا يعتبر الصهاينةُ العربَ أعداء؟ للرغبة في القضاء على الآخر سياقها، ولكن ماذا عن أبناء الوطن الواحد؟ هل تتذكّرون فترة 2013 و2014، عندما كانت في مصر اشتباكاتٌ أسبوعية بين المتظاهرين من الاتجاهات المختلفة. كان وقتها هناك من يزعم أن من يُقتل من فريقه شهيد أما قتلى الطرف الآخر فهم في النار، وهناك من قال يومها إن من يعارض الجماعة الحاكمة فهو يحارب الدين والله ورسوله، ولذلك فدمُه حلال. وعلى الجانب الآخر، كان هناك آيضا من يروّج أن استخدام العنف متاح ضدّ من في السلطة، حتى لو كان من شركاء الميدان، وفي الصف نفسه، فيما سبق.
عوين في أحداث كثيرة في بلادنا العربية كمٌّ كبيرٌ من الكراهية والرغبة في فناء الآخر والقضاء عليه، بدرجةٍ قد تكون مقاربة لوحشية الصهاينة
مرّت الايام والشهور، وجاءت مرحلة أخرى من الكراهية والصراع الصفري، وأصبح هناك من يبرّر الانتهاكات في حقّ المعارضين، بل ومن يدافع عن التعذيب أو الأحكام الجائرة وباقي الإجراءات القمعية، طالما كانت ضد معارضين أو مختلفين مع المسار السياسي، فمن يعترض يجري اعتباره خائناً للوطن أو عميلاً للغرب، أما المؤيدون فهم من لديهم الحقّ في احتكار صكوك الوطنية.
حدثت قبل أيام مجزرة ضد الفلسطينيين العزّل، عندما تم فتح النار على مجموعة كبيرة في أثناء توزيع المساعدات، ما أسفر عن عدد كبير من الشهداء الفلسطينيين. ورغم فداحة الحدث، تزعم حكومة الاحتلال أن التدافع هو السبب. وهذا يذكّر بمبرّراتٍ كان يجري ترويجها بعد أحداث كبيرة في مصر بعد ثورة يناير، بأنهم هم من قتلوا بعضهم بعضاً أو قتلهم طرفٌ ثالثٌ خفي، أو بتلك الأحداث المفتعلة في 2012 و2014 ضد جماهير كرة القدم ومجموعات الألتراس. قيل وقتها إن السبب الرئيسي في سقوط هذا العدد الكبير من الضحايا كان التدافع بين الجماهير، ولكن تفاصيل وروايات كثيرة أوضحت التربّص وتعمد الانتقام من تلك المجموعات والروابط نتيجة مواقفهم السياسية المناوئة للسلطات وقتها.
وبشكلٍ عام، عوين في أحداث كثيرة في بلادنا العربية كمٌّ كبيرٌ من الكراهية والرغبة في فناء الآخر والقضاء عليه، بدرجةٍ قد تكون مقاربة لوحشية الصهاينة ضد الفلسطينيين. منذ بدء استقلال الدول العربية، وهناك سلسلة طويلة من الأحداث والحروب الأهلية والانقلابات. وسيجد قارئٌ للتاريخ مقداراً كبيراً من الوحشية والجرائم التي ترتقي إلى درجة جرائم الحرب، وكل طرف فيها زعم إن الحقّ معه، وأن الطرف الآخر هو الشر المطلق الذي يجب إبادته، حتى يتحقّق الاستقرار أو الاستقلال ويعمّ الخير بعدها على الجميع.
يوجه بعض أنصار السلطوية اللوم للانتفاضات العربية التي حدثت في 2011، بحثاً عن العدالة والكرامة الإنسانية، بدلاً من لوم فشل الحكام أو فسادهم أو تمسّكهم بالسلطة
وها نحن نتابع أخباراً يوميةً بشأن فظائع ترتكب كل يوم في السودان، بأيد سودانية، عرب أو مسلمين أيضا، ولكنها قصصٌ قد تفوق وحشية ما يرتكبه الصهاينة ضد الفلسطينيين، سرقة ونهب واغتصاب لنساء مسلمات، وشهداء كل يوم في السودان قد تزيد أعدادهم عن شهداء غزّة، فقط من أجل السيطرة على الحكم وموارد الثروة، حرب أهلية مدعومة من أطراف عربية تغذّي الصراع، وكل طرفٍ يرفض الهدنة أو التنازل قيد أنملة.
صحيحٌ أن الحرب الأهلية في السودان هي صراع مسلّح على الحكم والثروة في الأساس، بالطبع ليست حرب إبادة وتطهير عرقي كما يحدُث في غزّة، ولكن التقارير الأخيرة عن أعداد الضحايا وكم الوحشية في الجرائم لهي تقارير مرعبة.
يوجه بعض أنصار السلطوية اللوم للانتفاضات العربية التي حدثت في 2011، بحثاً عن العدالة والكرامة الإنسانية، بدلاً من لوم فشل الحكام أو فسادهم أو تمسّكهم بالسلطة، حتى لو تطلب الأمر حرق الأخضر واليابس، فقبل الثورات والانتفاضات ألم تكن هناك جذور وجراح قديمة، ومذابح أو حروب أهلية وانتهاكات حدثت بالفعل منذ وقت طويل في السودان وسورية والعراق واليمن والجزائر؟