لنتذكّر تأسيس حركة كفاية في مصر
مرّ شهر ديسمبر/ كانون الأول، وكان مهما أن تستحضر فيه ذكرى كان لها تأثير كبير في مصر ثم المنطقة العربية كلها، وهو إعلان تأسيس الحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) عام 2004، وبدء الحراك المتواصل حتى عام 2011 والثورات الشعبية العربية، إنها الحركة التي كانت علامة فارقة، ولها الدور الرئيسي في إطلاق الشرارة حول مطالبات التغيير في مصر والمنطقة. ذلك أنه رغم قيام حركات اجتماعية عديدة ذات طابع احتجاجي في مصر والوطن العربي، قبل هذا التاريخ أو بعده، إلا أن "كفاية" هي الحركة الأم للحركات الاحتجاجية الاجتماعية في مصر، ولم تأخذ أي حركة جبهوية أخرى مثل تلك الشهرة والزخم والتغطية الإعلامية التي أخذتها.
كان شعار الحركة المصرية من أجل التغيير واضحا ومفهوما، وهو لا للتمديد ولا للتوريث، فالرئيس الأسبق حسني مبارك كان قد أتمّ وقتها حوالي 22 عاما في السلطة، بالإضافة إلى الأخبار والأحاديث المتناثرة عن نيته أن يخلفه في الحكم نجله جمال مبارك، وهو المخطّط الذي استفزّ مجموعات وقوى معارضة عديدة، واستفزّ أيضا مؤسّسات شريكة في الحكم.
وبجانب وضوح شعار حركة كفاية وهدفها رفض التمديد لمبارك ورفض توريث الحكم، كانت هناك أيضا ظروف موضوعية داخلية وخارجية أثّرت، بنسبٍ متفاوتة، فقد كان الظرف الداخلي نتيجة السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي بدأ في تطبيقها فريق جمال مبارك ورجال الأعمال، بالإضافة طبعا إلى تراكمات الفساد والفشل الإداري والظلم والاستبداد، وهي التراكمات التي أدّت لزيادة الغضب المكتوم. أما الظروف الخارجية، وكما جرى سردها في عشرات ومئات المطبوعات البحثية في العلوم السياسية، فكانت السياسة الغربية بعد الحرب على العراق، فقد كانت النظرية الأميركية والغربية ترجّح أن للديكتاتورية والاستبداد وغياب تداول السلطة في الوطن العربي دورا كبيرا في دعم الإرهاب والتنظيمات السلفية الجهادية، فبدأ عدّة حكام عرب في امتصاص تلك الضغوط أو الالتفاف عليها ببعض الإجراءات ذات الطابع الليبرالي أو الديمقراطي الزائف.
لم تفضّل جماعة الإخوان المسلمين المشاركة في الأنشطة ذات الخطاب الحادّ ضد مبارك، وكانت هناك آراء في "كفاية" تلقي باللوم على الجماعة بسبب تجنّبها الخطاب الصدامي
ومن الضروري الحديث عن الظرف وقتها، حتى نستطيع الخروج بقياس سليم، فالماضي لا يكرّر نفسه، وإن تكرّر فليس مؤكدا أنه سيكون بالصورة والوسيلة نفسيهما. ولذلك من المهم أيضا ذكر أن الشعار البسيط عن إزاحة مبارك أو "كفاية" لمبارك كان الشعار الذي وحد جميع الفرقاء، فقد ضمّت الحركة المجموعات اليسارية والناصريين والليبراليين وبعض الإسلاميين (من خارج جماعة الإخوان المسلمين أو التيار السلفي)، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من الكتّاب والصحافيين والفنانين والمثقفين، ومعظمهم كان من المستقلين عن الانتماء للأحزاب السياسية. أتذكّر عام 2004 عندما كنت شابا صغيرا حديث العهد بالعمل السياسي، وأنا أسمع تلك النقاشات والخلافات عن جماعة الإخوان.
في تلك الفترة، لم تفضّل جماعة الإخوان المسلمين المشاركة في الأنشطة ذات الخطاب الحادّ ضد مبارك، في الوقت نفسه كانت هناك آراء داخل حركة كفاية تلقي باللوم على الجماعة بسبب تجنّبها الخطاب الصدامي، وتجنّبها المشاركة ضمن أنشطة الحركة، وهناك أيضا من كان يرفض أي تعاون مع "الإخوان" لأسباب أيديولوجية، أو بسبب خلافات شخصية قديمة، عندما كانوا جميعا طلبة في الجامعة في فترة السبعينيات، والمصادمات العنيفة عندما كانت الجماعة مؤيدة لمواقف الرئيس الأسبق أنور السادات، وتحدّث كثيرون عن تجاربهم مع الجماعة في التنسيق السياسي إبان الانتخابات البرلمانية في الثمانينيات، وكيف أن الجماعة تعمل بشكل شديد البراغماتية، ومن الممكن ان تنسحب فجأة من الاتفاقات طبقا لأهداف خفية خاصة بها، ونشرت وذاعت مقالات ومقولات كثيرة عن انتهازية الجماعة وميكافيليّتها، وأن قياداتها سيحطّمون السلالم بمجرد الصعود إلى السلطة لمنع غيرهم.
شعار لا للتمديد ولا للتوريث لم يكن "كفاية" بدون حسم التفاصيل الحسّاسة
على الجانب الآخر، كنت أسمع تبريرات مع بعض ممثلي جماعة الإخوان المسلمين، يرفض بعضها فكرة الثورة والفوضى بشكل عام، وسمعتُ أيضا تنظيرات من أعضاء في الجماعة تتوافق مع تنظيرات السلفيين عن كراهية الخروج على الحاكم، ولذلك، كانت شعارات الجماعة وتظاهراتها تتحدث عن مصطلح "الإصلاح" وليس "التغيير" الذي كانت ترفعه حركة كفاية. وفي يوم من عام 2005، أفضى إليّ أحد القيادات بأن سبب عدم انخراط الجماعة في الأنشطة ذات الخطاب الراديكالي لحركة كفاية تجنّب الصدام مع السلطة، فإذا شاركت الجماعة بعشرات الآلاف أو مائة ألف أو أكثر، سيكون رد فعل السلطة عنيفا وأشدّ عنفا بكثير من رد الفعل الخفيف الذي يحدُث مع متظاهري حركة كفاية، فسيسقط عدة آلاف من الشهداء، ويسقط النظام، ولكن الجماعة غير راغبة في تولي السلطة، ولا تطمح في الاستيلاء على السلطة (على حد تعبيره وقتها).
كان الخطاب ذو الصوت العالي الذي تبنّته "كفاية" جاذبا لقطاعات شبابية كثيرة وقتها، وحتى من لم ينضم إليها أصابته الشعارات الجريئة بحالةٍ من الصدمة، كسر حاجز الخوف كان العنوان الذي أبرزه المنشق العام الأول للحركة، أستاذنا جورج إسحاق، رحمه الله، وكان هذا صحيحا بنسبة كبيرة، فبعد ظهور "كفاية" ظهرت عدة حركات اجتماعية مطلبية، تمثل مطالب العمّال والموظفين والفلاحين، وتكرّرت وتضاعفت هذه الحركات، حتى ظهرت حركة 6 إبريل عام 2008 بعد إضراب عمّال المحلة.
رغم أن جورج إسحاق لم يعد المنسّق العام لحركة كفاية عام 2008، إلا أنه ظل رمزا مهما لها، وظل بعد ذلك نشيطا ومساهما في الأنشطة المتوالية، واتسمت الفترة القصيرة التي قضاها عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، بالانضباط، ولم تكن بالحيوية نفسها في عهد جورج إسحاق، ولكنها شهدت إضراب المحلة. وبعد وفاة المسيري، خلفه الصحافي الناصري عبد الحليم قنديل، صاحب العبارات اللاذعة لنقد حسني مبارك، وصاحب النبوءة الشهيرة بأنه لو اعتصم في ميدان التحرير في القاهرة مائة ألف مصري سيسقط نظام الحكم المترهل لمبارك على الفور، وهو ما حدث في يناير/ كانون الثاني 2011.
كان الخطاب ذو الصوت العالي الذي تبنّته "كفاية" جاذباً لقطاعات شبابية كثيرة، وحتى من لم ينضم إليها أصابته الشعارات الجريئة بصدمة
كيف تحوّل الناصري المفوّه عبد الحليم قنديل من الانتقاد الحادّ واللاذع لنظام مبارك ورجاله إلى التأييد والدفاع الشديد عن نظام الحكم الحالي، رغم استمرار السياسات نفسها بمعظم شخصيات نظام مبارك ودعائمه وقواعده؟ ولماذا تفرّق شركاء النضال في حركة كفاية إلى خصوم بعد 2011، حيث كانت هناك محطات عديدة شهدت آراء وتوجهات متباينة بين الشركاء السابقين، وشهدت الخصومة أشكالا أكثر حدّة في 2013، فقد كان معسكر جبهة الإنقاذ المناهض للإخوان المسلمين يضم أغلبية التيارات الليبرالية والقومية الناصرية في مواجهة أنصار "الإخوان" الذي ضم أيضا مجموعات محسوبة على حركة كفاية سابقا، مثل حزبي الوسط والعمل ذوي التوجّه الإسلامي، فيما انقسمت المجموعات اليسارية والشبابية بين جبهة الإنقاذ تارّة وجبهة الطريق الثالث التي حاولت أخذ مسلك مختلف عن جبهة الإنقاذ؟
تثير هذه التحولات والانقسامات المستمرّة تساؤلات عديدة، هل كان الإجماع على رفض نظام مبارك كافيا لقيام الثورة؟ كيف تحوّل شركاء الماضي لذلك النوع من الصراع، فقد رأينا أخيرا القطب الناصري كمال أبوعيطة الذي قاد مئات التظاهرات المناهضة لمبارك قبل 2011 وهو يتسبب في سجن الناشر هشام قاسم الذي كان له أيضا دور كبير ورئيسي في مناهضة نظام مبارك.
لا تزال النقاط الحساسة والمحورية عالقة، وهي التي كان لها دور كبير في الصراعات الداخلية بعد تنحّي مبارك عن الحكم بعد الثورة، صراعات ربما بدأت في خمسينيات القرن الماضي بين التيارات والقوى الرئيسية في مصر والوطن العربي، ولم تُحسم بعد، فشعار لا للتمديد ولا للتوريث لم يكن "كفاية" بدون حسم التفاصيل الحسّاسة.