أن تحضر عرضين لمسرحية "التابعة" لـ توفيق الجبالي، لا يعني أنك ستشاهد العرض نفسه مرّتين، إذ إن العمل منذ بدأ تقديمه نهاية السنة الماضية، وتواصل عرضه على مسرح "تياترو" في تونس العاصمة، يقوم على تغييرات جزئية؛ سينوغرافية ونصّية، وقد يحدث أن يتغيّر المؤدّون بين عرض وآخر، وكأنّ غياب حبكةِ حكايةٍ حرّر "التابعة" من تكرار نفسها من عرض إلى آخر.
"التابعة" باللهجة التونسية تعني "اللعنة"، وهو المعنى الذي نجده في ترجمة العنوان بالفرنسية la malédiction كما يمكن أن نقرأه بمعناه المعجمي في العربية الفصحى، كمؤنث لكلمة التابع، إضافة إلى معنى آخر يشير إليه ملصق المسرحية حين يكشف أنها مستوحاة من عمل "تابع 1" للمسرحي الفرنسي فيليب منيانا ضمن مسرح "ما بعد العبث".
هكذا، من البداية، يخلق العنوان حول العمل شبكة علاقات لغوية، ليست غريبة عن مسرح الجبالي الذي كانت أحد أعمدته التلاعبات اللفظية، والتي ذهب بها ليقول مواقفه وقراءاته عن الشأن العام منذ قرابة ثلاثة عقود، بدءاً من "مذكّرات ديناصور" (1987) إلى "كلام الليل.. صفر فاصل" (2014).
النص، الذي عادة ما يكون الشجرة الأكثر ظهوراً في غابة مسرح الجبالي، كان يقف في "التابعة" خلف السينوغرافيا التي بدت مهيمنة ومندفعة أكثر لقول معظم ما يبتغي أن يوصله العمل إلى متلقّيه. طبعاً، لم يُسقِط الجبالي تماماً مميّزات مسرحه، فقد واصل الاشتغال اللغوي على العامية التونسية، بتصعيد تناقضاتها، والحفر بحثاً عن علاقات بين كلماتها ودلالاتها، ومستجدّات معانيها.
"التابعة" ليست سوى تلك اللعنة التي ضربت مجتمعاً، مباشرةً، بعد أن أنجز ثورة. اختيار هذا العنوان يحيل إلى تفسير يتداوله التونسيون حين تتواتر العوائق والمكبّلات أمام شخص ما. هنا، يصعد بها الجبالي إلى تفسير المكبّلات التي يعيشها شعب بأسره، طارحاً أسئلة متداولة في الحياة العامة ليقف بها عند خط الضبابية، مبرزاً حالة مستجدّة من التوقّف عن انتظار إجابة.
يبدأ العرض بظهور خمسة ممثلين حاملين حقائب، يدور بينهم حوار دائري، حيث إن الفكرة الواحدة يتقاسم قولها الممثلون الخمسة، في عملية استئناف متواصل. الحديث في هذا المشهد استهزائيٌ، حول مثقف لا نراه، حتى يدخل بعد بضع دقائق على كرسي متحرّك قبل أن يترجّل وهو في منتصف الخشبة. (مشهد من أداء: غسان حفصية وليلى اليوسفي وزهرة الزموري ويسر القلعي وزياد العيادي ومحمد على العريبي وسيرين بن يحيى).
وفيما كان حديث الخمسة بالعامية، يتحدث "المثقف" بالفصحى؛ لعلها عزلة إضافية يضعها الجبالي على أكتافه، وهو الذي يتحدّث عن الوِحدة. يقول "الوحدة أن تنتظر طويلاً حتى يتعفّن الآن والآتي حولك (..) أن تقرأ وتتكلم وأنت مربوط بذيل اللاشيء". لا يفرغ من حديثه حتى يحيط به أصحاب الحقائب الخمسة، يستفزّونه ويشاكسونه إلى أن يعود إلى كرسيّه المتحرّك ويغادر الخشبة.
يظهر الخمسة لاحقاً بأحزمة رقص ضمن توضيب جديد للخشبة تتحوّل فيه الحقائب إلى طاولة منصوبة، وكأننا حيال عملية تشريح، تذكّرنا بتقارب هذا المعنى من عبارة "تقطيع وترييش" التي تعني النميمة في العامية التونسية، لتبدأ محاكمة الراهن من خلال محاكاة الأحاديث عن الجيران والزملاء.
على امتداد الركح، خلال المشاهد الأولى، توجد خيوط معلّقة ومعقودة ستشغل بمرور الوقت جزءاً من تطوّر سردية المسرحية؛ تتحوّل في أحد المشاهد إلى مشانق، وفي آخر يجري حل عُقدها لتصبح ستارة تفصل النصف الخلفي من الخشبة عن الأمامي من دون أن تحجبه، وفي وقت لاحق ستتحوّل الخيوط إلى ستارة عرض.
يظهر "المثقف" مرة أخرى، ضمن ثنائية قائمة على السينوغرافيا الجديدة؛ يَظهر جسده خلف الستارة وهو جالس إلى مكتبه، وعلى الستارة يظهر عبر عرض فيديو وهو يقدّم أداءً كوريغرافياً.
سرعان ما تنهار عزلة المثقف حين يلتحق به الممثلون الخمسة كما في المشهد الأول، ليمطروه باستهزائهم؛ "لا تقل لنا إنك مثقف عضوي" ثم يقهقهون. أحدهم يقول "حين أنام لا شيء يفلح في إيقاظي حتى نهاية العالم"، وآخر يستأنف "ناكل القوت وننتظر الموت" وأخرى تقول "بول البعير مقطوع" أو "ماء الحنفية فيه التابعة" أو تُعلن "أحدهم أتى بنُكتٍ فقاموا بحجزها في الجمارك".
في آخر مشاهد العمل، تعود الحقائب، حيث يُنصّبها الممثلون في الخشبة لتتحوّل هي الأخرى إلى محامل لعرض فيديو تظهر فيه أولاً شعارات الثورة ثم يعقبها فيديو فيسبوكي لرجل يبكي ويضحك في الوقت نفسه.
لم تكن شعارات الثورة وحدها، موضع سخريةٍ (ومَسرحةٍ)، فشيء من جميع عناصر الحياة اليومية كان حاضراً في "التابعة". عرض فيه من القسوة مع الذات الجماعية ما "يُبهر" الأعين، تماماً كما تلك السينوغرافيا التي اعتمدها (تصميم: صبري العتروس) والتي غلبت عليها الأضواء القوية وكأنها تتقصّد مهاجمة أعين المتلقي تماماً كما في مشهد من العمل يهجم فيه صحافيون بميكرفوناتهم على مواطن يستنطقونه.
وإذا كانت "التابعة" بلا خيط ناظم قائم على حكايةٍ وحبكتها، فهي لربما انعكاس لتفكّك الخطاب العام، فنفس المتفرّج هو مواطن يجد نفسه يومياً أمام الجريدة أو التلفزيون ولن يجد هناك خيطاً ناظماً لأحداث تونس ما بعد الثورة.