"الخوذ البيضاء"... صُنّاع المُعجِزات
مصطفى الجرادي
شاب سوري كتبت في العديد من الصحف والمواقع العربية وأيضاً نشرت مجموعة مقالات قصيرة مع جريدة " Brabant Dagblad" الهولندية، مقيم في هولندا.
أثناء الإعلان الترويجي لفيلم الخوذ البيضاء "The White Helmet"، صادفت تغريدة تتحدّث عن هذا الفيلم، وكالعادة أعيدُ تغريد بعض منشورات صفحة الخوذ البيضاء على موقع "تويتر" أو منشورات أحد العاملين في هذه المنظمة النبيلة.
وقتها، قمْتُ بإعادة تغريد "ريتويت" من صفحة خالد الخطيب تتضمن رابطاً دعائياً عن الفيلم في شبكة" نتفليكس" العالمية. بعد دقائق بدأت الإشعارات تتوارد تِباعاً لردود من حساب شخصيّ روسي، يشكّك في صدقية منظمة الخوذ البيضاء ويحيلها لمؤامرة أميركيةـــ قاعديّة ومن هذه السرديّات التي يتناقلها داعمو الأسد الغربيون على اختلاف انتماءاتهم الأيديولوجية واصطفافاتهم السياسية.
بعد سلسلةٍ من الردود مع هذا الشبّيح الروسي الذي اعترف أنّ الأسد دُمية لدى بلاده وأخذ ورد، جاء في إحداها بضرورة الاحتراس والتنبّه لكوني من الرقة (الموقع الذي أضعه على تويتر هو: تل أبيض ــ الرقة) وفي سياق الرد بأنّ بلاده ستصل إلينا قريباً في لغة مُشابِهة وخطاب ألفناه وعهدناه من أمن الأسد وشبيحته.
انتهى هذا الجدل بواسطة نعمة "البلوك" التي توفّرها الفضاءات الزرقاء، وبدأتُ مع خالد محادثة جانبية عمّا حصل ووفر لي مشكوراً سبيلاً لمشاهدة الفيلم ومن جهتي وعدتهُ بالتعليق على الفيلم وأن ترده منيّ إشعارات إيجابيّة هذه المرّة!
بدايةً لا تقدّم هذه السطور قراءةً فنيّة أو نقديّة للفيلم، وإنّما هي انطباعات أو تسجيل للحظات التي انتابتني وأنا أشاهدُ لقطات هذا الفيلم. الفيلم الذي أخرجه البريطاني أورولاندو فون اينسيديل، الذي سبق له إخراج عدة أفلام وئاثقية رُشِّح أحدها للأوسكار.
يبدأ الفيلم بمشهد لقطع خشبية متناثرة يلَمْلمها شاب (خالد فرح) يرتدي قميصاً لنادي برشلونة ويضعها في مدفأة "صوبة" كانت مُخصّصةً للعمل بمادة المازوت التي أصبحت عملةً نادرة في هذه الأيام، يداعبُ هذا الشاب ابنته الصغيرة التي تعبث بخوذته البيضاء والتي سماها أمل، كإشارةٍ منه للتفاؤل والأمل الذي دفعه لحماية الناس من موت يحيقُ بهم من كل جانب في مدينة حلب التي لا يكاد الموتُ يفارق جنباتها وحاراتها المنكوبة.
يبدأ نهار العمل بالنداء على الزميل الآخر أبو عمر، وهو حدّاد سابق، كي ينطلق المشوار اليومي في حفظ حياة الناس ومجابهة الإرهاب الأسدي ــــ الروسي، الذي تغطي طائراته سماء هذه المدينة الأكثر خطورة في عالم اليوم، أبو عمر أيضاً يودع أمه ويقبّل يديها قبل مباشرة يوم العمل، ففي أي لحظة قد يفقد أحد عناصر "الخوذ البيضاء" حياته وهو يمارس العمل اليومي الذي ارتضاه في حفظ حياة الناس وانتشالها من بين الأنقاض وركام المباني.
يستكملُ الفيلم عرض شخصياته والتعريف بها لنصل إلى الشخصية الثالثة محمد فرح، وهو خيّاط سابق انضم لإحدى كتائب المعارضة المسلّحة وقاتل معها لمدة ثلاثة أشهر. لكنّه آثر ترك العمل المسلّح والتحق بالدفاع المدني "الخوذ البيضاء" إيماناً منه أنّ (( إنقاذ روح خير من إزهاق روح أخرى كما يخبرنا محمد.
في مشهدٍ تالٍ، تظهر مجموعة من أفراد الخوذ البيضاء وهم يتناولون طعام الغداء البسيط وفي الأثناء يهرعُ الجميع أثناء سماعهم صوت طائرة تشنُّ غارة على أحد الأحياء المجاورة "حي السكري" كما يصرخُ أحدهم على قبضة اللاسلكي. فيما يركض آخر تجاه سياراتهم وهو يصرخ "روسي .. روسي"، في إشارة منه إلى أنّ الطائرة التي تنفذُ الغارة تتبع سلاح الجو الروسي؛ فالناس في حلب وبقيّة أنحاء سورية باتوا قادرين على التمييز بين أنواع الطائرات التي تتزاحمُ في سماء سورية منذ سنوات عدّة.
يعود الفيلم بنا إلى تلك المعجزة التي حدثت على أيدي أبطال "الخوذ البيضاء"، وهي إخراج الطفل الذي كان حينها يبلغ من العمر شهراً واحداً وبقي حيّاً تحت الأنقاض مدة ست عشرة ساعة. تعلو التكبيرات حين استطاعوا انتشاله وإنقاذ حياته، وأطلقوا عليه لقب "الطفل المُعجزة". وتروي إحدى شخصيات الفيلم، إنّه بذات الفترة رُزق طفلاً بذات العمر مقارناً ما حصل لطفله مع هذا الرضيع الذي أنقذوه، مُستذكراً دموعه التي ذرفها وكأنّ الطفل الذي أنقذوه هو طفله أيضاً.
( تكرّرت هذه الحادثة أخيراً، في إدلب حين أجهش أحد أفراد الخوذ البيضاء بالبكاء في إدلب، وهو يحتضن الطفل الذي أنقذوه صارخاً: هذا ابني .. هذا ابني !! )).
لاحقاً يأخذنا الفيلم لمكان آخر غير حلب. في إحدى مدن الجنوب التركي، يظهر أفراد الخوذ البيضاء وهم يتلقّون دورة تدريبية على أيدي مُدرِّبين أتراك، ليتعلّموا أحدث الطرق والوسائل الحديثة في حفظ حياة الناس وصون أرواحهم، حياة أخرى في شوارع غير مُدمَّرة ولا أثر للموت فيها.
هناك يعيش أفراد الخوذ البيضاء ذات المفارقة التي عاشها الكثير من السورييّن بانتقالهم من صُنّاع للحدثٍ والخبر إلى مُتفرِّجين عليه من وراء الشاشات.
وتبدأ رحلة القلق مع تزايد الغارات على أحياء، ويعيش أبطال الفيلم لحظات عصيبة أثناء محاولة الاطمئنان على الأهل في ظل انقطاع الأخبار وتشتّتها، لكن ورغم كل هذا يقول أحدهم باللهجة الحلبية: (( لك خيو اشو ابني واشو ابن الجيران واش ابن هاد وهاد، كلياتهم أبرياء ما لهم ذنب)).
وفي الأثناء تتواردُ أنباء مفادها أنّ شقيق أحد عناصر الدفاع المدني قد استشهد وهو عالق تحت الأنقاض لتناقضه رواية أخرى بأنهم ما زالوا عالقين تحت الأنقاض ومصيرهم لا يزال مجهولاً. هذا عذاب مُضاف لعذاباتهم فهم كانوا الذين يخرجون الناس من تحت الأنقاض وينقذون حيواتهم، بينما في هذه اللحظة هو خارج الحيز الجغرافي لسورية ومجرداً من كلِّ أدوات الفعل والتأثير في مجريات هذه الحياة الظالمة.
تُظهر لقطات أخرى لحظاتٍ سعيدة لأصحاب الخوذ البيضاء عند لقائهم الطفلَ المعجزةَ الذي أنقذوه، كبُرَ محمود وصار يلعب بالكرة، احتضنوه والتقطوا صوراً تذكارية معه وألبسوه خوذتهم البيضاء الناصعة كقلوبهم فهو غرستهم التي نَمت كما شبههُ أحد أعضاء الفريق.
منذ تأسيس الخوذ البيضاء اُستشهدَ أكثر من 130 من أفرادها وفي الوقت ذاته استطاع هؤلاء الأبطال إنقاذ أكثر من 58000 مواطن من براثن الموت الأسدي والروسي.
ملاحظة: تحتوي مشاهد هذا الفيلم على لقطات لأناس مُتَدَيّنيِن يقرؤون القرآن ويصلون ويلهجون بذكر الله عند الملمات والمصائب فهي بالتالي غير مناسبة لـ"الإسلاموفوبيين" السوريين والعرب الذين حاولوا تشويه صورة هؤلاء الأبطال. الشكر لخالد الخطيب الذي كان له دور في إنجاز هذا الفيلم وأتاح لي فرصة مشاهدته ومحاولة الحديث عنه، وحمى الله من كان شعارهم "وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً".
شاب سوري كتبت في العديد من الصحف والمواقع العربية وأيضاً نشرت مجموعة مقالات قصيرة مع جريدة " Brabant Dagblad" الهولندية، مقيم في هولندا.