سورية وخرق الخطوط الحمراء
مصطفى الجرادي
شاب سوري كتبت في العديد من الصحف والمواقع العربية وأيضاً نشرت مجموعة مقالات قصيرة مع جريدة " Brabant Dagblad" الهولندية، مقيم في هولندا.
لا ريب أنّ الخطاب التأصيلي "الأوبامي" حيال الأوضاع في سورية، اتخذ تجليّات عديدة، من أبرزها التحذير الشهير لنظام الأسد بعدم استخدام السلاح الكيماوي في حربه، والذي سبق مجزرة الغوطة التي حدثت في 21 آب/ أغسطس من العام 2013 بالرغم من النداءات والتحذيرات المتوالية القادمة من البيت الأبيض الأميركي.
هذه التحذيرات، سبقتها أيضاً عبارات تنبيهيّة، وإنْ كانت أخفُ وطأةً أطلقها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي كان رئيساً للوزراء يومذاك، مُحذّراً الأسد ونظامه من اقتحام حمص وإعادة سيناريو حماة الدامي الذي كان الأب والعم قد صاغاهُ في ثمانينيات القرن والماضي، وما زالت آثاره وأهواله عالقةً في أذهان السورييّن قبل انطلاق الثورة وأثناءها.
لكن هذه الخطوط الملَّونة بدرجات متفاوتة ومتباينة من ألوان الطيف المعروفة، لم تمنع الأسد ونظامه من ارتكاب مجازر متعددة متنوعة، سواء أكانت ابتكارية تجديدية كمجزرة الكيماوي، والتي أعقبها تسليم الأسد لترسانته الكيماوية، والتي كان يعتبرها سلاح الردع الاستراتيجي لقلعة الصمود والتحدي ونبراس المقاومة العربية في "سورية الأسد"، في مجابهتها للهيمنة الإسرائيلية والإمبريالية. وهذا ما حدا بجريدة "النيوبورك تايمز" إلى أن تعتبر سورية عاراً على السياسة الأميركية.
وفي مقالة نُشرت فيها، في شباط/ فبراير الماضي، قال الكاتب: "إن سورية اليوم تمثل عار إدارة أوباما، فهزيمة بهذه الأبعاد ستلقي بظلالها على الإنجازات المحلية للرئيس الأميركي باراك أوباما. وقراره في 2013، عندما كان تنظيم الدولة الإسلامية بالكاد موجوداً في سورية، بأن لا ينفذ تهديده المتعلق بـ(الخط الاحمر) على استخدام الأسد للأسلحة الكيماوية، يمثل لحظة محورية قُوضت فيها كلمة أميركا. وتكبد من ورائها أوباما غضباً دائماً من حلفائه السنة في الخليج العربي، بالإضافة إلى أنه دعم الأسد من خلال عدم تعريضه لضربات عقابية جادة لمرة واحدة، وفتح الطريق لبوتين لتحديد مصير سورية".
وأيضاً، لم تمنعْ الخطوط والتحذيرات الأخرى تنفيذه لمجازر كثيرة، لكن بأدوات تقليدية، تبدأ من سكاكين الشبيحة التي أعملت ذبحاً وتقتيلاً في أجساد السورييّن، وليس انتهاءً بقذائف الدبابات والصواريخ الباليستية التي صيّرت أحياء حمص الثائرة، على سبيل المثال لا الحصر، أطلالاً وخرائب يقفُ عليها السوريون من وراء الحدود، أو يلمحونها ويتحسَّرون عليها وهم يشاهدونها في لقطاتٍ متلفزة ومشاهد سينمائية قاربت هذا المشهد الأكثر مأساويةً في التاريخ السوري الحديث.
قد يغيبُ عن بال الكثيرين أنّ العادة الأميركية في وضع الخطوط الحمراء، أو غيرها، لنظام الأسد لم تكن مستجدةً أو طارئةً بفعل الثورة السوريّة، أو تميّزاً أراد أوباما إسباغه على سياسته المترددة حيال الواقع السوري، بل إن تاريخ العلاقة بين أميركا ورؤسائها المتعاقبين مع نظام الأسد الأب، يأخذنا إلى أصل هذه العادة. في سنوات الحرب اللبنانية، وتحديداً في العام 1976، وفي تعليق حافظ الأسد على التفاهم غير العلني الذي جرى بينه بين إسرائيل بوساطة أميركية لتحديد القيود المفروضة على تدخلاته العسكرية في لبنان، ينقل الباحث الفلسطيني، حنّا بطاطو، في كتابه "فلّاحو سوريا" هذه المقولة لحافظ الأسد: "الخط الأحمر لا وجود له، وعلى كل حال فإني لا أراه. في بدء عام 1976، حذرتني الولايات المتحدة، ونصحني الاتحاد السوفييتي ألا أجتاز الحدود اللبنانية في المصنع، فالخط الأحمر كان في المصنع، لأن إسرائيل كانت تعتبر دخول الجيش السوري لبنان سبباً كافياً لإعلان الحرب. اجتزنا المصنع فحدثونا، الأميركيون والإسرائيليون، عن خط جديد في صوفر، ولما تجاوزنا صوفر، حدّدوا لنا بيروت على أنها الخط الأحمر الجديد. والآن، بعد انتشارنا في بيروت، راحوا يتكلمون عن النبطية وعن الليطاني كخط أحمر. فما هو هذا الخط الأحمر المبهم والمتحرك والمتنقل بشكل مستمر من مكان إلى آخر؟".
إذن هذا التساؤل والتهكم الذي أبداه الأسد الأب على الخط الأميركي الموضوع له حينها، يوضح كنه الخط الأحمر المُلتبِس الذي حدَّدهُ أوباما للأسد الابن كي يجتازهُ مراراً وتكراراً.
بعد سنوات عدّة من خرق الخط الأحمر الذي ارتبط اسمه بالرئيس الأميركي، أوباما، ظهرت خطوط حمراء وضعتها القيادة التركية، وهذه المرّة كان راسم السياسة التركية، أردوغان، هو مُطلقها، وهو الذي يضع قياساتها على الأرض السوريّة لتحل محل الخط "الأوبامي الشهير"، فمع تقدّم قوات وحدات الحماية الشعبيّة الكردية YPG، واقتطاعها المزيد من الأراضي لمصلحة الفيديرالية التي أُعلنت من جانب واحد، حذرت القيادة التركية في مناسبات عدّة من عبور المقاتلين الأكراد غرب الفرات، وإنّ هذا سيشكّل خطراً وجودياً على الأمن القومي التركي. لكن، بعد تأجيل معركة الرقة التي كَثُرَ الحديث عنها، ولم تصبح فعلاً ناجزاً على الأرض حتى اللحظة، اتجهَ المقاتلون الكُرد غرب الفرات، واجتازوه وسيطروا على منبج، وباتوا على مقربةٍ من الرقة، واضعين خط أردوغان وراء ظهورهم، وجاعلين الخط الأردوغاني مجرد تصريحات ليس إلّا.
الخطوطُ الحمراء التي وُضعت في الأرض السوريّة، تغيّرت ألوانها بغض النظر عمّن وضعها، أوباما أو أردوغان، وصارت عبارةً عن جملةٍ يتهكّم بها السوريّون في أحاديثهم الواقعية والافتراضية. وحدهُ الخط الأحمر المتعلّق بعدم إنهاء مأساة السورييّن المُشرَّدين في منافي الأرض، والمحاصرين بلقمة عيشهم في مناطق متعدّدة، هو الخط الأكثر بقاءً حتى اللحظة.
شاب سوري كتبت في العديد من الصحف والمواقع العربية وأيضاً نشرت مجموعة مقالات قصيرة مع جريدة " Brabant Dagblad" الهولندية، مقيم في هولندا.