"الدرونز" ضيفاً على دولة الخلافة

14 اغسطس 2014

مقاتلة من دون طيار تهبط في قاعدة عسكرية يونانية

+ الخط -

هروب قوات الجيش العراقي من أمامه حين دخل إلى الموصل، وهروب قوات البيشمركة الكردية في شنغال وسنجار وغيرها، ليس أول ولا آخر ثمار الاستراتيجية التي تبناها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش". الاستراتيجية التي تتمثل في وحشية بالغة، عمل التنظيم المذكور على تبنيها، كاستراتيجية مواجهة، منذ دخوله إلى بلاد الشام، قادماً من العراق في إبريل/نيسان 2013.
ومفردات النصرة والرعب والذبح وغيرها مألوفة، يبثها هذا التنظيم باعتياد، ويرفدها بصور التفجيرات والأجساد المعلقة والسكاكين، وهي تنحر الضحايا. وقد مثلت هذه الوحشية، إلى جانب التفجيرات الانتحارية على المراكز والحواجز، استراتيجية قتال مهمة، لدى هذا التنظيم الذي يملك مخلصين كثيرين على مستوى القواعد، ولا يُعهد عنه قدرة قتال جيدة في المواجهات الميدانية. وعلى عكس التنظيمات المسلحة الأخرى، من غرائب تنظيم داعش، أنه، بتصاويره وتسجيلاته ومواده الدعائية التي ينشرها، يظهر وكأنه يبعث رسالة، يريد أن يظهر فيها دوماً أنه تنظيم متوحش عنيف ومؤذٍ!.
هؤلاء المتطرفون الذين انضموا إلى داعش، وأحياناً انسحبوا من تنظيماتٍ جهاديةٍ أخرى إليه، عمل أبو بكر البغدادي على استغلالهم عبر هذا البعد النفسي. ففي حين كانت التنظيمات الأخرى تقيد اندفاع مقاتليها نحو التكفير والفجور مع المخالفين، كما فعلت جبهة النصرة في مواقف مختلفة سابقاً، أطلق البغدادي الحرية لكل طاقات الكراهية والتفجير والبطش، الكامنة لدى أفراد التنظيم. وهناك من المقاتلين من يعتبر هذا مغنماً يطمح إلى كسبه، ويهاجر إليه.
هذه الاستراتيجية الانتحارية التي تشبه استراتيجية الحسن الصبّاح، صاحب "قلعة

الحشاشين"، قد تعجِز أقوى النظم الأمنية تطوراً في العالم، فكيف بها في منطقة عامرة بالفوضى، والتنظيمات البسيطة التجهيز، ممن اعتادت داعش مواجهتهم، وكسب الأراضي أمامهم. 
ليس التفجير الانتحاري مرتبطاً بالدين بالدرجة الأولى، على الرغم من أن الأدبيات درجت على ربطه برغبة الشهيد في التضحية بنفسه، والذهاب بعجل إلى الدار الآخرة، دار النعيم والفرح! إنها استراتيجية قتال في المقام الأول. وفي كتابه "التفجيرات الانتحارية"، وجد طلال أسد أنه، في عقد الثمانينيات والتسعينيات، كان عدد التفجيرات في العالم 188 تفجيراً، نالت قصب الصدارة في تنفيذها حركة "نمور التاميل" في سيرلانكا التي نفذت 75 هجمة من أصل هذه الهجمات. وهذه الحركة ماركسية- لينينية، ينحدر أعضاؤها من عائلات هندوسية. ولذا، حين تتصدر، اليوم، حركة، بأدبيات إسلامية، مشهد التفجير الانتحاري في العالم، فهذا لا يعني، بالضرورة، أن هذه الاستراتيجية مرتبطة بالدين.
هذا العنف مغلّف بأخلاقيات التنظيم الذي يعتبر نفسه حافظاً لدولته "دولة الإسلام"، وفي سبيل ذلك، لا يتوانى في استباحة من يقف في وجهه وتدميره. لقد تجاوز داعش تنظيرات الكراهية للآخر، إلى تطبيقها بحرية على أرض الواقع. والكراهية للآخر "الطائفي"، موجودة، وبشكل واسع ومألوف في العقد الأخير في المجتمعات العربية التي تحدر منها هؤلاء المقاتلون. وداعش تشكلت، منذ البدايات، على البعد الطائفي الذي كان سبباً من أسباب تمايزها عن القاعدة الأم في سنوات العراق (2005 وما بعدها).
ومن محفزات إطلاق اليد في العنف أن يصاحب ذلك نزع القيمة من الضحية. وداعش يمارس امتهان ضحاياه، معنوياً وفكرياً، بتكثيف الدعاية ضدهم، وأنهم روافض أو مرتدون (لا يبايعون) أو نصيرية وغير ذلك من الألفاظ الطائفية والعقائدية التي تستخدم بغرض الإقصاء. وهذا يسهل، بعد ذلك، على داعش وأفراده التعدّي على حرمات هؤلاء الناس، وقتلهم، أو مصادرة أملاكهم وتهجيرهم.
وبعد تكوين داعش الدولة، واستفراده بالمناطق التي يسيطر عليها، انتقل التنظيم من العنف المندفع والمقاتل، الذي سيطر عليه، في بدايات دخوله بلاد الشام، وتجلى في سياسات الاقتحام وتفجيره الحواجز والتجمعات، إلى العنف الممنهج الذي يتجلى في تشريعه القوانين الصارمة للدولة، كقطع الأيدي وعقوبة القصاص والإعدام والجلد وغيرها.     
هذا يُسهل على التنظيم، الذي يخوض حرباً مفتوحة مع الجميع، أمر الهيمنة وإدارة المجتمع في الدولة الجديدة، على الرغم من شدة المعارضة له بين الطبقات الاجتماعية، كونها مجتمعات لم تعهد العيش في ظل هذا التطرف والتضييق الشديد على المجتمع. طوال التاريخ، كان الطغاة يعرفون أنه لا يوجد ضابط للرعايا، مثل رأس معلق، أو جسد مصلوب على باب المدينة، هذا سيحفظهم، ويبعد عنهم تمرد الرعايا، أو نشوء تحركاتٍ تهدف للاستقلال عنهم، أو وجود مظاهر مخالفة لنهجهم المتشدد الذي يفرضونه بالقوة.
وما أطلق جنون داعش، وفجر طاقاته المتطرفة، كان الاستفراد بالمكان، فالجماعات المسلحة سابقاً كانت تعاني في هذه المسألة، وكانت تعيش على هوامش البلدان، خفيةً أو في مناطق قبلية ومناطق اضطرابات. وحتى في ظل حكومة طالبان الأفغانية، كان تنظيم القاعدة مقيداً.
ويمتلك داعش مكاناً يساعد قادته على تطبيق السيادة، ويبعد عنهم حياة المطاريد. مكاناً سيعمل التنظيم على جعله قبلة للقلوب المشابهة. فتجميل المكان، وتقديمه على أنه مكان لتطبيق الشريعة "الصافية"، هدف يُكسب الشرعية والدعاية. ولو استمر داعش في امتلاك المكان، فعلى الدول العربية أن تظل متوقعة مزيداً من المفاجآت.
ما حدث الشهر الجاري، كان دخول ضربات الطائرات الأميركية، ومن ثم العراقية، في هذا المشهد، حين قصفت طائرات أميركية، منها طائرات من دون طيار (الدرونز)، مقرات لداعش. وتمثل هذه الضربات متغيراً جديداً سيقلب معادلة المكان على داعش. من ذلك، كسر مظاهر السيادة، وعودة الخليفة المطاع إلى الاختباء وحياة المطاريد، إضافة إلى تشجيع القوى المناوئة، العراقية والكردية، على التقدم وكسب الأراضي أمام داعش. 
وكان عدم التجمع في مكان محدد استراتيجية مألوفة لدى الجماعات الجهادية، لأنها تعرف أن هذا يسهل على أميركا قصفهم، ولذا، طالب منظرو الجيل الثاني من القاعدة بتوليد جماعات صغيرة (لامركزية) للقاعدة، على عكس ما فعل جيل القاعدة المؤسس في البدايات. داعش، بجرأتها وتهورها، كسرت هذا الأمر، وقررت امتلاك المكان والتمركز فيه، والإعلان عن مظاهر سيادتها، كما حدث في حالة سورية التي كانت مناطقها الشاسعة معزولة عن أي تدخل من قوى مهمة. ولكن، لا يبدو أن هذه الاستراتيجية تنجح مع دخول داعش العراق.  
داعش التنظيم يقف وحده، مصارعاً فرداً بلا أمّة. لا يوجد لدى التنظيم حبل تواصل شعبي ومعنوي مع الأمة، نتيجة جرائم هذا التنظيم، إضافة إلى ذاتيته التي جعلته يقطع علاقاته مع الجميع، بما فيهم قيادة القاعدة المركزية. وهذا ما يُرشح عدم حصوله على كسب أي شعبية بعد تعرضه للقصف الأميركي، على عكس جماعات أخرى، ضربتها أميركا. يثبت هذا القصف الذي بدأ، مطلع الشهر الجاري، خرافة حصول داعش على حواضن شعبية في العراق، فلا يوجد ردة فعل شعبية على قصف المقاتلين، مثلما حدث في المناطق القبلية في باكستان واليمن، بعد أن قصف مقاتلون (ومدنيون) بطائرات الدرونز هناك.
 
 
 

 

85E9E8E1-EE94-4087-BB96-D28B3C71079C
عبد العزيز الحيص

كاتب سعودي