مع بداية ظهور الحركة العمالية في مصر مطلع القرن العشرين، كانت السينما تراقب وتستعد لفهم ما يحدث لمحاولة استيعابه ومن ثم التعامل معه كمادة خام يمكن تشكيلها سينمائياً، ويمكن القول إن السينما بدأت تجسّد حراك الطبقة العاملة بالتوازي مع ظهور النقابات في عشرينيات القرن الماضي.
بمناسبة "عيد العمال"، استعاد "مركز الصورة المعاصرة"، مساء الثلاثاء الماضي، عدداً من الأفلام المؤسِّسة لتاريخ السينما المصرية من جانب، والمؤرخة لبداية الحراك العمالي بشعاراته ومطالبه من جانب آخر، وبشكل أساسي توقف المركز عند فيلم العامل، الذي لعب دور البطولة فيه وأنتجه الفنان حسين صدقي إلى جانب فاطمة رشدي، وكان من إخراج أحمد كامل مرسي.
وتحت عنوان "العامل يغادر الأرشيف: وثائق ومواد وتعليقات بدون فيلم"، حاضر علي حسين العدوي - المشرف على وحدة الأرشيف في "شركة منتخبات بهنا للتوزيع"، وهي التي وزعت "العامل" (تأسست على يد الأخوين بهنا عام 1932) - حيث عرض أرشيف الفيلم من صور وملصقات وملفات تخص هيئة الرقابة بشأن التعليق على الفيلم والسيناريو الذي كتبه محمد عبد الجواد، كل هذا دون عرض الفيلم نفسه، لأنه مفقود؛ يرجح العدوي أن الفيلم بحوزة شركة "روتانا" السعودية التي اشترت معظم أرشيف السينما المصرية، وعلى وجه الخصوص أرشيف الثلاثينيات والأربعينيات الذي يضمّ 2500 فيلم، والذي يمثّل جزءاً جوهرياً من تراث مصر السينمائي التأسيسي.
تدور أحداث الفيلم حول قصة أحمد (حسين صدقي)، العامل في أحد المصانع، والذي تتعرض يد زميلٍ له إلى الفرم داخل ماكينة أثناء العمل، فيقرر أحمد المطالبة بحقوق زميله، والاحتجاج وتوعية باقي العمال بحقوقهم، ومنها تعويض إصابة العمل، فيرفض صاحب المصنع (زكي طليمات) الإصغاء إلى مطالب البطل ويطرده من المصنع.
تتطور أحداث الفيلم بعدما يقابل البطل عاملاً آخر يائساً لدرجة التفكير في الانتحار بسبب الظلم الذي يتعرض له في العمل، فيقرر الاثنان إنشاء مشروع ورشة مشتركة تلتزم بالمحافظة على حقوق العمال من خلال ميثاق حقوقي خاص مع إقامة مدرسة للعمال؛ تتطور هذه الورشة لتصبح مصنعاً كبيراً بمساعدة البطلة (فاطمة رشدي).
يعود العدوي إلى ملف الرقابة وتعليقاتها على الفيلم في ذلك الوقت، والتي تظهر أنها لم تكن راضية بشكل كبيرعن العمل؛ يقول: "وفق تقرير الرقابة التي تمتلكه الشركة فإنها رأت أن الفيلم يجسد صاحب العمل في صورة الشرير، لكن تم تمرير هذا الانتقاد لأن رب العمل في الفيلم كان أجنبياً، كما كانت تنوي الرقابة إلزام المنتج حسين صدقي بإضافة مشاهد يعاد تصويرها من أجل مدح الإنجازات والقوانين التي تأتي في صالح العامل، لكن ذلك كان مستحيلاً، وتم التوافق على أن يتم ذكر تلك القوانين بشكل كتابي في نهاية الفيلم على التتر".
يضيف المحاضِر: "أثناء الحرب العالمية الثانية زاد الحراك العمالي في مصر، ففي الفترة بين عامي 1933 و1943 شهدت مصر مجموعة من الإضرابات العمالية بلغت 38 إضراباً، منها 26 إضراباً في المحلّة الكبرى، وفي عام 1933 صدر قانون بتنظيم وجود النساء والأطفال في العمل، وفي عام 1935 صدر قانون بتعويض العمال ضد الإصابات، لكن ظلّت السينما في تلك الفترة تجسد معاناة النساء والعمال والأطفال في مجال العمل، لأن كل تلك القوانين كانت حبراً على ورق".
رغم ذلك الحماس السينمائي لملاحقة القضايا العمالية وتجيسدها فنياً، إلا أنها أحياناً كانت تضطر إلى التنازل بسبب طوق الرقابة الخانق. ففي بعض الأحيان كانت تظهر داخل الفيلم دعوات إلى تقديم الطرق السلمية في الاحتجاج مثل العرائض والشكاوى الورقية والنشر في الجرائد بدلاً من الإضراب واحتلال المصانع.
يقول العدوي: "في فيلم "العامل" الذي تم تصويره بالكامل داخل مصنع الشوربجي للغزل والنسيج في إمبابة، قامت الرقابة بحذف مشهدين؛ الأول احتلال العمال للمصنع، والثاني اعتناء صاحب العمل بكلبه المدلل صحياً مقابل رفضه تعويض عامل لديه أصيبت يده أثناء العمل".
المفارقة أن مصنع الشوربجي الذي تم فيه تصوير فيلم "العامل" بالكامل عام 1943، هو نفسه الذي شهد اعتصام 1953 وقام الأمن وقتها باعتقال 500 عامل داخل المصنع.
خلال فترة الأربعينيات، أُنتج فيلم "الورشة" (1940)، بطولة عزيزة أمير ومحمود ذو الفقار وإخراج ستيفان روستي، وتقوم قصته حول امرأة يختفي زوجها بعد حادثة ولا تعلم عنه شيئاً، وتقرر هي إدارة ورشته فتزاول مهنة الميكانيكا وإصلاح السيارات مع العمال، كأول فيلم يجسد قوة وتأثير المرأة العاملة داخل محيط الأعمال الشاقة.
كما ظهر فيلم "ابن الحداد" ليوسف وهبي، وتقوم فكرته حول جيل أبناء العمال ممن حظوا بالتعليم وقرروا تطوير مهن آبائهم دون الانجذاب للوجاهة الاجتماعية، ثم ظهر فيلم "المظاهر" (1945)، بطولة يحيى شاهين، والذي يقوم فيه بدور ميكانيكي يعمل بكد غير طامع في أموال البطلة صاحبة المصنع التي تقرر في النهاية ترك زوجها الثري الطامع في ثروتها وتتزوج من يحيى شاهين الميكانيكي الكادح وتعينه مدير أعمالها.
من ضمن الأفلام التي جسّدت شكل الحياة العمالية في الأربعينيات: "السوق السوداء" (1945)، من إخراج كامل التلمساني. تدور قصة الفيلم حول العمل في مجال السوق السوداء والتربح السريع منها خلال الحرب العالمية الثانية وتأثير ذلك على وضع العامل العادي الذي يجد نفسه في مقارنة صعبة أمام والد إحدى الفتيات التي يتقدم لخطبتها؛ وهو صراع يجسده الفيلم بين العمل الشريف وغير الشريف.
انتهت فترة الأربعينيات بفيلم "المرأة" (1949)، من بطولة كمال الشناوي ومحمود السباع وماري منيب، ومن إخراج عبد الفتاح حسن، وقصته عن أخوين مختلفي الطباع، يعملان في مصنع، يصور الفيلم أجواء العمل وقسوة الحياة، ثم الخلاف الذي يقع بين الأخوين حين تظهر امرأة في حياتهما ويحبها الاثنان، ويبدأ الصراع بينهما ليتحول إلى صراع بين الخير والشر في ظل ظروف العيش الصعبة، كأن العمل يلتفت إلى صعوبات الحياة الخاصة عند أبناء الطبقة العاملة.