بعد صدور ثماني ترجمات أجنبية لرواية "القوقعة" لكاتبها السوري مصطفى خليفة، وقد صدرت لأول مرة سنة 2008، ظهرت مؤخراً ترجمتها الألمانية das Schneckenhaus عن دار فايدله (Weidle). وهي رواية اشتهرت بسبب كونها تتناول سجن تدمر السوري، أحد أكثر السجون في العالم شهرة بسبب وحشيّته، وبذلك بات هذا النص الأدبي أحد علامات أدب السجون العربي. ورغم صدورها قبل اندلاع الثورة الشعبية في سورية، إلا أن "القوقعة" صارت تُعتبر من بين أبرز الأعمال الأدبية المقترنة بالثورة السورية.
أنجزت هذه الترجمة لاريسا بندر (Larissa Bender)، وهي التي قدمت للمكتبة الألمانية، منذ أزيد من عشرين سنة، عشرات الترجمات الأدبية لنصوص روائية وقصصية وشعرية من الأدب العربي الحديث، لعل من أهمها "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف. كما أن بندر واكبت الثورة السورية إنسانياً، ومن تجليات ذلك أنها ترجمت العديد من الأعمال الأدبية لكتاب وكاتبات من سورية مثل ديما ونوس وسمر يزبك.
في "القوقعة"، لم تكتف بندر بترجمة النص بل قدمت لها أيضاً، حيث شرحت عوالمها الخارجية والداخلية المخيفة للقارئ الألماني غير الملم بالضرورة بحيثيات هذا العمل الأدبي ومدى ارتباطه بالوضع العام الذي أفضى إلى نشوب الثورة السورية، ولا سيما ذلك التداخل الشديد بين مصير بطل الرواية الذي لا يحمل أي اسم وتجربة السجن التي تعرّض لها الكاتب ذاتُه بسبب نشاطه السياسي في فترة شبابه ضمن حزب يساري معارض، حينما سُجن المرة الأولى في سجن صيدنايا.
ثم سُجن ثانية ابتداء من سنة 1981 في "القوقعة" كما أسماها الكاتب ويقصد بها سجن تدمر، الذي لم يغادره إلا في 1994، وشرع مباشرة في كتابة روايته هاته، والتي سيصدرها في 2008 في بيروت، أي سنتين بعد مغادرته بلاده.
تنطلق الرواية نفسها من الذكرى المؤلمة لكاتبها، فهي عبارة عن يوميات شاب سوري "مسيحي" و"ملحد"، أُلقي عليه القبض حال وصوله إلى مطار دمشق راجعاً من فرنسا التي أنهى فيها دراسته للإخراج السينمائي، ليقبع في "القوقعة" بسبب تقرير عنه، مسجلاً بعدها تفاصيل مليئة بالقسوة في رحلة معاناة شديدة امتدت بدورها على مدى ثلاث عشرة سنة متتالية في هذا السجن، بتهمة الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين.
لا يكتفي بطل الرواية بتذكّر معاناته الفردية، بل يسجل أيضاً عذابات السجناء وتفاصيل الانتهاكات الجسيمة الممارسة في حقهم كما عاينها أو رُويت له، وكأنها شهادة أخيرة عن السجن الذي تم نسفه بالكامل لاحقاً، ليحول هذا النسف دون أن يكون هذا المبنى شاهداً على مأساة إنسانية.
تعتبر بندر أن هذه الرواية تعد في حد ذاتها مدخلاً مناسباً لفهم الحيثيات السياسية والاجتماعية في سورية، ولاسيما منذ سبعينيات القرن الماضي، وهي مرحلة مهدت لتفجّر الوضع في البلد بعد عقود طويلة من إحكام القبضة الحديدية، فكيف لنا ألا نربط بين ما نقرأ وما حدث ويحدث في سورية اليوم. كما تحيل الرواية إلى بُعدٍ أوسع، إنه البعد الكوني ذاته، فهي تقتفي عبر تفاصيلها المؤلمة أثر التوحش "الإنساني" ذاته.
من المؤكد أن "القوقعة" بنسختها الألمانية الجديدة سوف تكون وثيقة أدبية حية عن المسكوت عنه في سورية، ولعلها تساهم في فهم أفضل - من طرف القارئ الألماني - لأسباب اللجوء السوري إلى ألمانيا، فقد وصلها أيضاً كثيرون لهم ذاكرة لا تختلف كثيراً عن تلك الذاكرة السجينة التي نسجت تفاصيل رواية "القوقعة".
* كاتب مغربي مقيم في ألمانيا