قدّمت أطراف سياسية معنية بالدخول في مشاورات تشكيل الحكومة مع حركة "النهضة"، شروطاً أساسية للحوار مع الحركة الفائزة بأغلبية المقاعد في الانتخابات النيابية التي أجريت في 6 أكتوبر/تشرين الأول الحالي. وإذ لا ترفض هذه الأطراف مبدئياً الحكم مع "النهضة"، فإنها ترفض أي تفاهمات لا تقوم على أساس البرامج والتصورات التي تترك فيها بصمتها وتحقق جزءاً من وعودها الانتخابية، وقد تضع "النهضة" في مأزق لا يحتمل خيارات كثيرة، فإما القبول أو الرفض. ويبدو أن حزب "النهضة" الفائز بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية الأخيرة، حُشر في الزاوية من قِبل الخصوم والأصدقاء، ولم تتح أمامه خيارات كثيرة في البحث عن حلفاء، فليس أمامه إلا حلان، إما أن تُقدِم شخصية من داخله على تولي تشكيل الحكومة فتتحمل أعباء الأزمة الاقتصادية وتنفيذ شعارات تحقيق أهداف الثورة التي عادت إليها خلال الحملة الانتخابية، وإما أن تقبل بشروط الأحزاب والائتلافات الفائزة بمقاعد هامة في البرلمان، باستثناء "قلب تونس" و"الدستوري الحر" اللذين يرفضان قطعياً التحاور معها لتشكيل حكومة ائتلافية تتقاسم مسؤولية النجاح أو الفشل.
وكان من الواضح منذ البداية، أن الساحة السياسية دخلت مشهداً جديداً بانتهاء التوافق بين "النهضة" وحزب "نداء تونس"، وهو اتفاق على علله، أتاح فترة من الاستقرار المؤسساتي في البلاد. ويشبّه متابعون للشأن السياسي المخاض الذي تعيشه الساحة السياسية بذلك التخبّط الذي شهدته بعيد انتخاب المجلس الوطني التأسيسي (2011). ووفق المتابعين، فإن "النهضة" وإن نجحت آنذاك في جذب "المؤتمر من أجل الجمهورية" و"التكتل من أجل العمل والحريات" للتحالف معها تحت عنوان المصلحة الوطنية التي تقتضي التجميع، فإنها اليوم تعجز عن القيام بذلك، فلم يعد لها ذات الحجم، علاوة عن أن شركاءها في الفترتين (الترويكا والتوافق) تحمّلوا معها أعباء الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة، وجمعهم أيضاً قاسم مشترك هو انحسار جماهيريتهم وتعمّق الخلافات حول خيار التحالف معها وغياب أطر مؤسساتية لفضّ الخلافات الداخلية، ما أدى لاندثار البعض ورذل البعض الآخر لا سيما في ظل الهشاشة السياسية.
لذلك، لم يكن سهلاً على الأحزاب السياسية أن تقبل من دون تردد مقترح التحالف مع "النهضة" ولا أن تسمح بأن تتكرر تجربة أحزاب سبقتها معها، وسارعت لوضع شروط واضحة لأي تحالف ممكن، لتعيد الكرة إلى ملعب "النهضة"، فإما أن تقبل أو ترفض. جاءت أكثر الشروط ليونة من "ائتلاف الكرامة" الذي حصل على 21 مقعداً نيابياً. وقال القيادي في الائتلاف زياد الهاشمي لـ"العربي الجديد"، إن "الائتلاف لا يطرح شروطاً وإنما المطلوب فقط هو ألا تقوم بأي مراوغات لما أورده الدستور وذلك بتقديم شخصية من الحزب الفائز لترؤس الحكومة وتشكيلها، وعلى هذا الأساس يمكن للائتلاف أن يدخل في تحالف لا على أساس محاصصات ونيل نصيب من الحقائب الوزارية وهو أمر لا ينتظره ولا يطلبه".
وتابع "لا يعتبر الائتلاف أنه في موقع لمحاسبة النهضة إذا ما خالفت الدستور ونظامها الأساسي الذي يلزمها بتقديم رئيسها كمرشح للمناصب العليا، وإنما يرفض مراوغة الناخبين الذين من حقهم معاقبة من انتخبوهم وأسندوا لهم الأغلبية"، مضيفاً أن "النقطة الثانية التي يطرحها الائتلاف كقاعدة للتحالف، هي قبول النهضة بتطبيق نقاط من برنامجه الانتخابي حتى يحفظ وعده أمام ناخبيه أيضاً". ولفت إلى أن "على القاعدة ذاتها يقبل الائتلاف أن يصوّت لمنح الثقة لحكومة ولو لم يكن جزءاً منها، مع ضمان شرط آخر وهو ألا يكون في صفوفها أسماء تعد جزءاً من المنظومة القديمة أو ممن تورطوا في قضايا فساد أو من تحوم حولهم شبهات في هذا المجال".
من جهته، أكد الأمين العام لحركة "الشعب" زهير المغزاوي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الحزب لم يتلق بعد دعوة من "النهضة" من أجل التشاور حول تشكيل الحكومة، ولم تجمعه إلا لقاءات بقيادات "التيار الديمقراطي" من أجل تنسيق المواقف، ولن يقبل الحزب أي مشاورات تتم قبل تقييم المرحلة السابقة والأسباب التي قادت للأزمة الخانقة ومدى مسؤولية كل طرف فيها وهو عامل أساسي للبناء للمستقبل. ولفت المغزاوي إلى أن من غير المطروح في هذه المرحلة الحديث أيضاً عن الحقائب الوزارية فالأمر لا يتعلق بالمحاصصات، بل يتجاوز ذلك إلى استعداد الحزب لتحمل مسؤوليته أمام ناخبيه في أن يكون شريكاً في الحكم وفي الإصلاح استناداً إلى توفر ثلاثة شروط. واقترحت حركة "الشعب"، وفق أمينها العام، أن يتم الاتفاق على الملف الاجتماعي برمته وبتفرعاته كالعمل والتعليم والصحة، وهو ملف يمثل جوهر الخلاف الحقيقي بين الحركة وبقية مكونات الائتلاف الحاكم بين رؤية اجتماعية في مواجهة رؤية اجتماعية. ويعتبر هذا الملف نقطة أساسية لضمان سلامة واستقرار المسار السياسي، وطالما بقيت المطالب الاجتماعية من دون إجابة ظل المسار مهدداً.
أما الملف الثاني، فمتعلق بموضوع السيادة الوطنية، إذ "انتهكت السيادة الوطنية خلال السنوات الماضية من قبل دول أجنبية وسفرائها في البلاد، وحرمت تونس حتى من تنويع علاقاتها مع دول صاعدة قادرة على مساعدتها في الخروج من الأزمة"، على حد تعبير المغزاوي. أما النقطة الأخيرة التي رأت "الشعب" أن من الضروري الخوض فيها مع بقية الأطراف، هي المجال الأمني الذي يضم ملف الاغتيالات السياسية ومسألة سفر تونسيين إلى بؤر التوتر، فضلاً عن الموقف مما يحدث في دول الجوار على غرار ليبيا وسورية. واعتبر المغزاوي، أنه لا يمكن أن تتقدم أي مشاورات قبل إيضاح هذه الملفات وتقديم إجابات صريحة حولها.
واستنكرت "الشعب" الخوض في تقسيم الحقائب الوزارية، معتبرة أن استباق هذه النقطة هو أحد عوامل تدهور العمل السياسي، ويناقش مجلسها الوطني الخطوط العريضة لمواقف الحركة خلال الفترة المقبلة وحدود قبولها أو رفضها للمقترحات المعروضة إليها.
وتركز الأطراف المرجح دخولها في تحالف حكومي وبرلماني مع "النهضة" على البرنامج والتصورات، لترضي ناخبيها أولا وتحقق بعضاً من وعودها الانتخابية، بينما ترجئ أغلبها مسألة المحاصصات والوزارات على الرغم من تداول الكثير من الأسماء والترشيحات لهذه المناصب. ويعود ذلك، وفق مراقبين، إلى أن سنوات عمل الترويكا التي لم تكن مبنية على ميثاق عمل وتصورات أدت إلى فشل ذريع، ويخشى "الحلفاء المرتقبون" أن تتكرر التجربة وتكون حدود حضورهم في منظومة الحكم صورية بوزارات غير ذات أهمية ولا تسمح بتنفيذ البرامج الانتخابية، أو أن تلقى مقترحاتهم آذاناً صمّاء من رئيس الحكومة المقبل، الذي قد يسعى لتطبيق برنامج حزبه، لا سيما إذا وجدت خلافات جوهرية حول بعض النقاط.
فضلاً عن ذلك، يرى مراقبون أن وثيقة قرطاج الأولى (2016)، وعلى الرغم من ضعفها، كانت أساساً للعمل الحكومي ولإعداد أجندته وخففت عنه ضغط المنظمات الاجتماعية التي كانت جزءاً في صياغتها، وكانت أيضاً قاعدة للمحاسبة والمساءلة. ويدفع ذلك الحلفاء المرتقبين نحو ألا يكون هذا التقارب والعمل المشترك صكاً على بياض، وتجربة ضارة في مشهد سياسي متحرك ومتقلب بقدر تقلب انطباعات الناخبين وآرائهم.
واعتبر القيادي بحزب "التيار الديمقراطي" محمد الحامدي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الحقائب التي تحدث عنها الحزب (العدل والداخلية والإصلاح الإداري) تعد ضمانات لـ"التيار" لحسن تنفيذ جزء من تصوراته الضروري، ولا يحجب ذلك جانباً آخر من الشروط الدنيا المطلوبة أولها برنامج مشترك يتضمن الحد الأدنى مما يعتبره التيار أولويات. ولفت إلى أنه في ظل غياب بيان حكومي يحدد جملة من الأولويات ويجعل الحكومة "حكومة إنجاز وطني" وآليات لتنفيذه فلا يمكن الحديث عن تفاهمات.
وحتى يدرأ "التيار الديمقراطي" عن نفسه تهمة تعطيل المسار ومن منطلق مصلحة البلاد في أن تتشكل الحكومة ولا تصل إلى مرحلة انسداد قد تفضي لإعادة الانتخابات، يمكن أن يسند "التيار" أصوات نوابه من أجل منح الثقة لحكومة لا يكون طرفا فيهاً. وأوضح الحامدي في هذا الصدد، أن هذا الموقف يأتي في باب المحاججة، فإذا نجحت "النهضة" في تشكيل حكومة لن تكون بحاجة أصوات "التيار" لتمريرها وإنما من باب اثبات أن الحزب لا يهدف لعرقلة المسار أبدى استعداده للتصويت لفائدتها.
في المقابل، أعلنت أطراف أخرى، لا سيما تلك التي سبق لها التشارك مع "النهضة"، أنها غير معنية بأي توافقات في المرحلة المقبلة، ومن غير المطروح أن تخالف إرادة الناخبين التي عاقبتها ولم تسند لها ما يكفي من الأصوات لتتصدر الأغلبية فتكون جزءاً من الحكم في المرحلة المقبلة.
ووفق هذا المنطق، لا يعتبر حزب "تحيا تونس" نفسه معنياً بالمشاورات، ويعلل ذلك بأن توازنات الانتخابات أعطت حجماً صغيراً للحزب والمرتبة السابعة في البرلمان بكتلة تضم 14 نائباً لا يسمح له بأن يكون طرفاً حاكماً. وأوضح نائب رئيس الهيئة السياسية لـ"تحيا تونس"، مصطفى بن أحمد، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن احترام رغبة الناخبين يقتضي ألا يشارك الحزب في الحكومة وهو موقف مبدئي اتخذه المجلس الوطني للحزب في إطار التطابق مع نتائج الانتخابات التي فوضت للحزب الفائز بثقة المقترعين المقتنعين ببرامجه وتصوراته وأن يشكل الحكومة ويقود المرحلة المقبلة. وأضاف بن أحمد أن حزبه سيكون "مع المعارضة لا مع الاعتراض" وفق تعبيره، وشرح أنه من الممكن أن تتفاعل كتلته إيجابياً مع بعض المواقف والمقترحات ولا يمكن أن تتحول إلى قوة عرقلة.