صبية كورية تقرع جرس باب شقة أهلها. مرة، مرّتين، ثلاث مرّات. لا جواب على ندائها المنفعل: "ماما، ماما". ترفع رأسها في حيرة، فربما تقرع جرس باب شقة أخرى غير شقّتهم. تنسحب الكاميرا (مشهد عام) إلى الخارج، فتظهر الصبية واقفة أمام باب شقة في مبنى سكني كبير. تشبه تفاصيل واجهة الشقّة بقية شقق الطوابق المتعدّدة للمبنى. تشابه تؤسّس عليه الكورية الجنوبية كيم بورا فيلمها الروائي الطويل الأول، "بيت الطائر الطنان" (2018)، الحاصل على الجائزة الكبرى (التوليب الذهبي) في الدورة الـ38 (5 ـ 16 إبريل/ نيسان 2019) لـ"مهرجان إسطنبول السينمائي".
في الفيلم، تُراجِع كيم بورا موروثًا ثقافيًا، شغل بال علماء اجتماع وأنثروبولوجيين، كرّسوا جهودهم لفهم سلوكيات سكّان الجغرافيات المنعزلة. فالعزلة التاريخية الطويلة لليابان وشبه القارة الكورية أفرزت ثقافة خاصة، من بين تمظهراتها: الانضباط والصرامة والهرمية، وعبودية الفرد/ الحاكم، والتشابه.
على السطح، تبدو حكاية المراهقة الكورية الجنوبية أون ـ هي (14 عامًا) بسيطة، لا تحتمل تلك التأويلات كلّها. فهي خالية من عناصر الميلودراما التراجيدية. مسار مراهقتها عادي وبسيط. متعرّجاته خفيفة، تمر بها كلّ صبية ربما. فمن أين إذًا يأتيها العمق والقدرة على معاندة موروثات اجتماعية وسلوكيات متأصلة؟ سؤال تطرحه المخرجة وكاتبة النص على نفسها قبل غيرها، وتُلزمها بالإجابة عليه بما توفره لها صنعتها من إمكانات. التصوير، والرهان على مهارة مديره غوك ـ هيون كانغ، يرتفعان بارتفاع منسوب رهانها على نص طموح، ينشد مراجعة حقبة تاريخية قريبة لا تنفصل عن تاريخ بلدٍ، لم تشفع له عزلته عن العالم في مواجهة "عصيان" داخلي وانفتاح خارجي، المُستَقبِل الحسّاس للشباب كان أول مُلتقطيه.
تستجيب الكاميرا لـ3 مستويات من السرد الحكائي: الأول داخلي معتم، ينقل أجواء عيش المراهِقة داخل الشقة. مكان كئيب، تتفاعل داخله حيوات متأزمة، تفرز انفعالات عنيفة. الثاني، المُكرَّس لعكس أكبر قدر من أحاسيسها الداخلية، يُؤخذ بلقطات "مقرّبة". أما الثالث، وهو المشهد العام للمدينة التي تتحرّك وسطها أون ـ هي وكلّ من له صلة بها، فتتكفّل اللقطات البعيدة بنقله.
تجاربها البسيطة في البيت والمدرسة، وتأثّرها غير المباشر بكلّ ما يجري حولها، تراكم فيها ميلاً إلى معاندة الموجود، ورفض التشابه من دون ثورة. هي نتاج مجتمع محافظ لم تسعفه الديمقراطية الغربية كثيرًا. أشخاص وأحداث صغيرة يعينونها على فهم ما يحيط بها، والتفكير مليًا في مخارج شخصية محتملة من داخله، فـ"ما صنعته الإمبراطوريات بشعوبها قرونًا طويلة، بإرادتها المتسلّطة، يجعلها تبدو كتماثيل متشابهة، يصعب تجاوزها بسهولة". الفكرة الأخيرة متأتية في سياق سردي مُحمَّل بأفكار فلسفية وتاريخية، تشي بتسريبها السلس إلى داخل النص بموهبة سينمائية، تُغني متن الفيلم، مهما تبلغ حبكته من بساطة، برؤى وأفكار طليعية، متأمّلة واقعه.
دخول معلّمة الدروس الإضافية (كيم سايبيوك) يُحدث تغييرًا مهمًا في حياتها. تعينها حواراتها معها على تأمّل وجودها، وعلى رفض الخنوع والقبول بالأذى. الموت المفاجئ لمعلمتها وصديقتها، في حادث انهيار جسر "سنغسو"، يخذلها ويتركها في مواجهة أسئلة وجودية أكبر من قدرتها على فهمها. لم تدرك الصبية معنى الموت، وكيف يأتي، ولماذا يتخلّى الأصدقاء والأحبّة عن بعضهم البعض. الاشتغال على نقل الانفعالات المكظومة والهزّات العاطفية والتعبير الضمني عن موروثات ثقيلة، وتعالي روح الأنثوية التوّاقة إلى التحرّر، يُحيل نص كيم بورا إلى مُداخلة بصرية في معرفة بشر ومجتمعات معقّدة التكوين، تَضمر أكثر مما تَعرض، وتُبَيّت أكثر مما تُعلن. الأفراد فيها يعيشون ازدواجًا قاسيًا. تنقصهم المصارحة وحرارة المشاعر.
ذلك جليّ في المَشاهد المتنقلة بين الداخل (البيت) والخارج (المدرسة والمدينة). الداخل المنقول بكاميرا تشحّ عنها الإضاءة، والخارج الممنوح سطوعًا ضوئيًا. الجمع بين الظلّ والضوء والأداء التمثيلي الرائع لجي ـ هو بارك يسمح بتجسيد مذهل لانفعالات الصبية المراهقة، وبعرض أسخى لفكرة كيم بورا، الباحثة في تكوين مجتمعها، بكلّ ثقافته وأنساق تفكيره، وإمكانية تجاوز ما يتعارض مع عصريّته، المشروطة بالتخلّص من بقايا إرث آسيوي منغلق.