"تبيّن" تحتفي بذاكرة فلسطين
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
في ما يشبه استباقا ذكيا لما حدث من تطبيع، مرذول شعبيا بين دولة الإمارات و"إسرائيل"، احتفت مجلة "تبين" الطليعية، والتي يصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في جديدها أخيرا (العدد 33)، بملف "الذاكرة"، وقد جاء في وقته تماما، فمحو الذاكرة هو الهدف العميق لأي تطبيع. وفي السياق ذاته، لمّحت الفيلسوفة الفرنسية، إلزا غودار، في كتابها "أنا أوسلفي إذن أنا موجود" (ترجَمه إلى العربية السّيميائي سعيد بنكراد)، إلى أن "أيّ استعمار، عسكري أو تقني، يستهدف مسح أمرين: اللغة والذاكرة"... وماذا يتبقى بعد مسح اللغة والذاكرة!؟ ولنتصوّر، مثلا، مسح الذاكرة العربية تجاه الحقّ الفلسطيني. لنتصوّر، مجرّد تصوّر، أنه صار في وسعنا، فجأة، أن "نمحو" من "ذاكرة" العرب كل ما له صلة بفلسطين.. يصعب علينا مجرّد تصور ذلك.
سافرتْ بنا بعض أبحاث ملفّ "الذاكرة" إلى عهود سحيقة، كان لفلسطين فيها ما لا يتأتّى، ولن يتأتّى، أبدا للكلّ: ذلك الامتدادُ في التاريخ، وإن ضاقت الجغرافية. لذلك ربما جاء العدد الجديد من مجلة "تبين"، ومن باب مصادفة ماكرة، مع توجّه دولٍ عربيةٍ إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وما تبع ذلك من ردود فعل شعبية وثقافية واسعة غاضبة، ورافضة للتطبيع الذي سيعمل بقوة على مسح الذاكرة العربية تجاه الحقّ الفلسطيني.
نقرأ في تقديمٍ زهير سوكاح عن ملفّ العدد "من الذاكرة إلى دراسات الذاكرة.." أنه "بحلول الألفية الجديدة، تحولت الذاكرة، مفهوما وممارسة، إلى ظاهرة مجتمعية عامة ومشتركة، بل متعدّدة المشارب، إنْ لم نقل إنها عالمية وعابرة للقوميات. وقد رافق هذا الرجوع العالمي إلى الذاكرة وما أفرز من تمظهرات سوسيوثقافية متنوعة إلى درجة التعقد، اهتمام علمي منقطع النظير ضمن المشهد البحثي في الغرب، على امتداد العقود الأخيرة، تُؤثثه مجموعة من المفاهيم العلمية الآتية من تخصصات متنوعة، لكنها تشترك في كونها تتعامل كلها مع "ثيمة" الذاكرة، التي صارت تجمع وتقرّب أكثر من غيرها من الثيمات؛ ومن أبرزها "الذاكرة الجمعية" و"أماكن الذاكرة" و"الذاكرة الحضارية" و"الذاكرة التواصلية" و"الذاكرة الاجتماعية" و"ثقافة التذكّر" و"النسيان الاجتماعي" و"سياسة التذكّر" وغيرها من المفاهيم المركزية التي تعكس الحركية الكبيرة المرتبطة بمفهوم الذاكرة"...
ذاكرة مشترَكة محمّلة بلحظات الصّراع من أجل وجود فلسطينَ حرّة وأبية كما تكرّستْ، عبر عقود، في الذاكرة الجمعية العربية قضيةً تلتقي عند حدودها كلّ القضايا الأخرى... والحقّ أن ما تراكم في ذاكرتنا عن فلسطين هو من الكثافة والغنى والتجذّر بحيث لا يستطيع شيء "محوه" من كياناتنا. واستوقفتني دراسة تناول فيها محمد مرقطن "ذاكرة المكان: أسماء المدن والقرى الفلسطينية ما بين الاستمرارية التاريخية والطمس الصهيوني"، تساءل فيها: ما أماكن الذاكرة الفلسطينية؟ وما حفظت لنا؟ وما الأماكن التي تم إيداع التاريخ الفلسطيني فيها؟ وكيف تكونت هذه الأماكن؟ وما علاقة الإنسان بالأرض في فلسطين عـبر التاريخ؟.. مبرزا، في دراسته "التأسيسية" هذه، والتي تسعى إلى أن تكون ذات قيمة علمية مميزة ومضافة لأماكن الذاكرة الفلسطينية من خلال المدونات التاريخية، اعتمادا على "الذاكرة الجمعية الفلسطينية، التي تتكون من الذاكرة الثقافية والذاكرة التواصلية الفلسطينية". ثم ناقش العلاقة بين الذاكرة والتاريخ، مستعرضا مسألة هوية المكان وأهمية الدراسات اللغوية لأسماء الأماكن الفلسطينية، متطرّقا إلى مسألة التحول المكاني للشعب الفلسطيني بعد النكبة وسياسة الطمس الصهيونية لأسماء الأماكن الفلسطينية، مستعرضا أسماء الأماكن التي احتفظ بها الفلسطيني على امتداد ما يناهز أربعة آلاف سنة من التاريخ (الموثق) لهذه الأسماء، تظهر استمراريتها التاريخية بأسمائها العربية - الفلسطينية، ما يعطيها هويّتها التاريخية؛ مبرزا أن اللهجة العربية -الفلسطينية هي أحدث المراحل اللغوية في فلسطين وآخرها. وجاء الكاتب على أسماء أماكن عديدة في فلسطين، تشتمل على قرى ومدن ووديان وجبال وعيون، وخرَب وأماكن مقدسة لأولياء ومضارب بدو وغير ذلك مما قدّرته إحصاءات بنحو عشرة آلاف اسم. بينما قُدّر عدد أسماء القرى والمدن بناءً على "أطلس فلسطين" بما يناهز 1600 قرية ومدينة..
هل قلتُ 1600 قرية ومدينة؟ نعم، يبدو أنّ بيننا من يسعون إلى "محو" أسمائها من الذاكرة. لكنْ.. هل يمحو التاريخَ مَن لا تاريخَ لهم؟!
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية